يوسف الكويليت

تكررت مأساة غرق جدة، والسبب ليس نقص المال والاعتمادات فقط، وإنما أزمة نزاهة، حتى صار البحث عن شخصيات نظيفة اليد وذات ضمير وأخلاق ووطنية تتعالى على الأنانية ونهب المال العام، قضية معقدة، إذ إن تأسيس الفساد في الأجهزة التي تعاقبت على إدارة المشاريع بلغ التجذر، وعدم معاقبتهم بما توفره الشرائع والقوانين وتعريض اسم البلد أمام العالم إلى ما يعتبر تقصيراً عاماً، سيتكرر أكثر من مرة، لأن كرم السماء لا تحده قوانين بشرية أو تمنعه إصدار قرارات، والقضية كشفت الوجه الحقيقي لأزمة الأخلاق الحادة..

كل مواطن له الحق بامتلاك سكن وكل متطلبات الحياة التي توفرها الدولة، لكن أمام غياب التخطيط وتأصيل الفوضى المدمرة، جعل كل رب أسرة يبحث مأوى على أي أرض، فانتشرت العشوائيات والمخالفات، وما كان مستوراً فضحته الأمطار، لأن من امتلكوا بطرق غير مشروعة المساحات الهائلة وباعوها للضعفاء، الذين أقاموا منازلهم في مصبات السيول، مع الغياب التام من العاملين في الأمانة على مدى الثلاثة أو أربعة العقود الماضية، هم من يجب إخضاعهم للتحقيق والجزاء العادل الذي يراعي مصالح المواطنين ولا يجامل من عبثوا وكسبوا على حساب أمانتهم..

مؤلم المشهد المهيل، والأكثر إيلاماً أننا أمام حفنة من المسؤولين الذين تسببوا في الكوارث، لا نجد موقفاً يذهب إلى المحاسبة القصوى، وحتى عملية المشاريع التي تُعطى لشركات توارثت الحصول على امتيازات التنفيذ، وهي ضالعة في سوء العمل، نراها تأخذ المليارات التي بولغ في اعتماداتها..

فكيلومتر الطريق، والمطار، والجامعة، والميناء، وكل عناصر البنى التحتية، يُبالغ في تكاليفها من دون سبب جوهري، بينما دول عربية وخليجية تنفذ مشاريعها بكلفة أقل وجودة أفضل، وجدة تعرضت لهذه الحالة إذ تراكمت عوامل النهب بغطاء إعطاء الصلاحيات إلى من لا يستحقونها..

لسنا ضد أحد، أو في حالة خصومة مع أفراد أو جماعات، لكن أن يظل تراكم التجاوزات واقعاً منظوراً، يبدأ من أجهزة التخطيط ووضع الميزانيات من قبل الدوائر الحكومية، ثم شركات ومؤسسات التنفيذ، من دون أن تخضع هذه المشاريع للمراقبة الدقيقة التي لا تقل مسؤولية عن التنفيذ، لأن السكوت على الأخطاء الفادحة من قبل تلك الدوائر يقع ضمن شراكة الإهمال التي اتسعت وجعلت جدة وغيرها عرضة لانكشاف وقائع أكثر فظاعة بسبب الإهمال المسكوت عنه..

المهم أن لا تندرج الواقعة بعد زوال نواتجها إلى النسيان، لأن ما جرى يهز سمعة الدولة والوطن، ومن لا يكون نزيهاً أو كفئاً للمسؤولية عليه أن يرحل بقوة المصلحة العامة مهما كانت وظيفته وكان اسمه..