فتحي خطاب

ماذا حدث في تونس, وقد كان خارج كل التوقعات والاحتمالات?! .

هناك الكثير في رأيي يستحق أن نعيد قراءته بموضوعية على خريطة الثورة الشعبية التي فجرها الشباب التونسي أولا, ينقل بياناته وتحركاته بالتواصل عبر آليات تكنولوجيا الاتصالات من مواقع الترابط الاجتماعي, ثم يقود الشارع التونسي بمختلف طوائفه وفئاته, وتطيح الثورة الشعبية بأول حاكم عربي في التاريخ العربي الحديث, والذي لم يسجل من وسائل وأدوات تغيير السلطات الحاكمة سوى ثلاث: انقلاب عسكري, أو مؤامرة من داخل القصور الحاكمة, أو تدخل خارجي يفرض ما يريد .. وفي تونس, كان الشعب هو صاحب القرار.

ويبقى التساؤل قائما: كيف حدث ما حدث, وبتلك السرعة 29 يوما فقط من الاحتجاجات تسقط أمامها كل الحواجز والسدود والكراسي حول وداخل قصر الرئاسة, ثم يفر الحاكم هاربا?!! ربما كانت بداية الشرارة مع أزمة عدم الفهم لما يجري في الشارع التونسي, وعدم الفهم لم يخلق سوء الفهم فحسب, لكن خلق ما هو أخطر, خلق مآزق بين الحاكم والمحكوم.. الحكومة في واد, والشعب في واد آخر.. الحكومة تتباهى بأن الأمور على ما يرام, لكن الواقع غير ذلك, وهذا ما فجره انتحار الشاب محمد البوعزيزي في ولاية سيدي بو زيد, وسط البلاد!!

وأتصور.. نحن أمام حالة لم تسترع اهتمام أحد من المحللين, أو لم يلتفت إليها أحد بالقدر الكافي من الاهتمام, وهي ما يمكن أن نطلق عليها quot; لعنة quot; الحاشية والحزب الحاكم!! وللتوضيح فقط.. فهي لعنة (أدوات سلطة وحكم) في العالم الثالث ونحن في القلب منه أما في دول المستوى الأول من العالم المتقدم, فلا وجود للحاشية مع العدالة السياسية وتبادل للسلطة لا يتجاوز ولايتين على مقعد الرئاسة, وليس هناك بالطبع وجود لحزب الأغلبية الكاسحة quot; الحاكم quot; لأن السلطة في بلادنا العربية وحدها هي التي تصنع الأغلبية, وليست الأغلبية هي التي تصنع السلطة!!

والرئيس التونسي المخلوع, قد أدرك في اللحظات الأخيرة, أن لعنة الحاشية والحزب الحاكم قد أصابته, ولذلك جاءت اعترافات أول حاكم عربي بأنه قد خدع من الحاشية, وأنه لم يكن يعرف الحقائق كاملة, وأن من حوله من أدوات السلطة كانوا يقولون له بأن الأمور على ما يرام, وانه قد أخطأ ويعتذر, بعد أن فهم حقيقة ما يجري, حتى أنه رفض اقتراح أحد رجال الحاشية والقيادي بالحزب الحاكم quot; عبد الوهاب عبد اللهquot; بأن ينحي باللوم في كل ما يحدث من احتجاجات على تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي, غير أن quot; بن علي quot; سخر من هذا الاقتراح, قائلا إنه يعني قتل السياحة في تونس, وهو ما يمثل انتحارا بالنسبة لنا!! ومع الاعتراف بأنه قد خدع من الحاشية, فقد قرر إقالة وزير الداخلية, وإطلاق سراح جميع معتقلي الاحتجاجات,ويأمر بوقف إطلاق النار على المتظاهرين, وفتح تحقيق فوري في اتهامات الفساد وملاحقة المفسدين من المسؤولين, ويعد بالحرية الكاملة للإعلام, وأنه لن يترشح لولاية سادسة عام 2014 إلى جانب حزمة من الإصلاحات السياسية!!

لكن الاعتراف والاعتذار جاء في الوقت الضائع, ولم ينج من لعنة الحاشية والحزب الحاكم!!

وحكاية quot;لعنة quot; الحاشية, قديمة في تاريخنا العربي .. وتقول كتب التراث .. بينما المنصور في الطواف ليلا, إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض .. فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض?! قال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم, فأغفلت أمورهم, وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر, وأبوابا من الحديد, وحراسا معهم السلاح, وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان, نفرا سميتهم, فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك قد انشغلت بأحوالك وابتعدت عن الناس, فقد اتفقوا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا.. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم, عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم, فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا, وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل !! فبكى المنصور وقال: ليتني لم أخلق!!

ويبقى التساؤل قائما حول ما حدث ويجري في تونس.. وربما وجدنا أنفسنا الآن في حاجة إلى إلتفاتة سريعة إلى الوراء, ومع اندلاع أول تظاهرة غضب من الشباب في سيدي بوزيد, ضد البطالة والغلاء وتضامنا مع الشاب quot; محمد البوعزيزي quot; 14 / 12 / 2010 ، ثم انتقال الإحتجاجات إلى بقية المدن التونسية, وسقوط القتلى برصاص الشرطة, واستجاب ساكن قصر قرطاج لمطالب الشارع بمواجهة أزمة البطالة وإرتفاع الأسعار, وتعهد بتوفير 300 ألف فرصة عمل قبل عام 2012 وتوظيف الشباب من أصحاب المؤهلات العليا الذين مر على تخرجهم عامان أو أكثر, والتحقيق في ممارسات الفساد من بعض المسؤولين, ومحاسبة قوات الأمن المسؤولة عن جرائم القتل خلال الاحتجاجات .. وفي مساء 13/ 1 / 2011 تحولت المطالب الإجتماعية فجأة إلى مطالب سياسية, وإنهاء مسألة إنفراد حزب واحد ( التجمع الدستوري الديمقراطي ) بالسلطة .. وفي صباح 14/ 1 / 2011 طالبوا برحيل الرئيس, وإنتشرت قوات الجيش في العاصمة تراقب الأوضاع الأمنية, ومنحازة للمتظاهرين !! هل كان الشعب التونسي يريد التغيير الشامل وليس الترقيع?! أم أن هناك من تولى في اللحظة الحاسمة, إدارة حركة الثورة الشعبية وتوجيهها إلى السقف الأعلى?!

ومهما كانت التصورات والاحتمالات.. فإن quot;لعنةquot; الحاشية والحزب الحاكم, كانت تفعل فعلها داخل قصر قرطاج وخارجه!! 0