حامد الحمود

منذ أكثر من سنتين، كنت في بيت صديق لبناني في بيروت، وكان حديثنا حول الانقسامات الطائفية في لبنان. وكيف أنه وبالرغم من الحروب التي عانى منها الشعب اللبناني وانتشار التعليم، استمر الانتماء الطائفي المحدد الرئيسي للتوجهات السياسية للأفراد والجماعات. الأحزاب السياسية في هذا البلد تعطي نفسها أسماء موحية بالأمل، مثل التقدمي الاشتراكي، المستقبل، أمل، حزب الله، الوطني الحر، لكن قاعدتها الشعبية لا تتجاوز الطائفة التي ينتمي إليها رئيس الحزب.
هذا وقد جذبني الحديث إلى أن أستعيد مع صديقي بعض الذكريات من laquo;تجربتي اللبنانيةraquo; عندما كنت طالبا في الجامعة الأميركية في أول السبعينات، وكيف أن الطلاب رغم أنهم كانوا في حرم جامعي يشهد له بالتميز وارتقاء وعي طلابه، فإنه وفي أغلب الأحيان كان الانتماء الطائفي المحدد الاهم للرؤى والتوجهات السياسية لطلابه. وذكرت لصديقي أني كنت ناقدا قديما لهذه الاصطفافات الطائفية، وقد نشرت مقالا في الصحيفة الطلابية للجامعة، انتقدت فيه تصويت الطلاب في الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس الطلبة وفقا لانتماءاتهم الطائفية. وأظهرت رغبة بأن أستعيد نسخة من مقالي حول هذا الموضوع الذي نشرته تقريبا عام 1972، وكنت آنذاك في السنة الجامعية الأولى. وطلبت من زوجة صديقي التي كانت تسمعنا وتشاركنا الحديث، وتعمل أستاذة في الجامعة الأميركية على مساعدتي في البحث عن عدد المجلة الطلابية التي نشر فيها هذا المقال. فالأعداد موجودة في مكتبة الجامعة، لكن البحث عن مقال صغير فيها قد لا يكون سهلا.
وبعد أسبوع، أخبرتني زوجة صديقي، وهي تناولني نسخة من المقال، أنها لم تكن تتوقع أن تعثر عليه بهذه السهولة. وعلق عليه صديقي بعد أن قرأه قائلا: laquo;انه صالح للنشر غدا !raquo;. وكان المقال يحمل عنوان: laquo;جامعتنا والعشائريةraquo;. وقد ابتدأ المقال الذي نشر في مارس (آذار) 1972 بالتالي:
إنه لمن الجميل أن ننعم بالنظم الديموقراطية، ونعيش في ظل حريات وحقوق تمنحنا إياها هذه النظم، ولا سيما حق انتخاب ممثلين عنا يشرعون لأصحاب السلطة. وجامعتنا حمدا لله ديموقراطية إذا كانت الظروف مناسبة. ولكن يبدو أن العشائرية المتأصلة في الإنسان العربي يصعب التخلص منها. بل هي من القوة بمكان حتى انها قادرة على أن تلوي الديموقراطية، أكثر الأساليب الاجتماعية تقدما. ولا أقصد بالعشائرية معناها العرفي التقليدي، وإنما مفهوم طالما التصق بالكلمة ألا وهو العصبية. وقد تكون هذه إقليمية أو طائفية. وقد تكون هذه مقبولة في المجتمع العربي الواسع المتأخر، ولكنها ليست مقبولة أبدا في حرم جامعتنا الذي يحوي النخبة العربية. (انتهى الاقتباس)
هذا هو لبنان، بلد النور والتنوير والجمال الذي يصر كذلك على أن يكون رائدا في التمترس الطائفي. فتجربة الحروب والمعاناة والتهجير والهجرة غيرت الأفراد، لكنها لم ترتق بالوعي، وبالأحرى لم تغير حتى الافراد، بل مات الآباء فبرز الأبناء قادة سياسيين. واختزل رأي السنة بتيار المستقبل وأمواله. لدرجة أن الأقل حظا في قائمة الحريري أو تيار المستقبل يهزم سليم الحص في الانتخابات النيابية لضعف نفوذه المالي. والنخبة والمثقفون من الشيعة يهجرون الجنوب خوفا من laquo;حزب اللهraquo; وأيديولوجيته. هذا في بلد النور والجمال، فكيف هي أحوالنا في البلاد التي يظل فيها النور ضعيفا والصوت خافتا؟ ومتى تصبح مثل هذه المقالات laquo;غير صالحه للنشر غداraquo;.