الياس خوري

تحمل المذبحة المروعة التي ارتكبت ضد المتظاهرين السلميين في ماسبيرو، واتخذت شكلا طائفيا بغيضا، كل سمات الخساسة والوحشية التي تخبئها الثورة المضادة. وقد جاءت هذه الجريمة كي ترفد الخطاب الطائفي الأقلوي الداعي الى استمرار الاستبداد بحجة الخوف، وتعطيه منطقا متطابقا مع بعض احلام العسكريين الذين يحلمون بالاستيلاء على السلطة.
لن اتوقف عند سفاهة التحريض الملوث بالطائفية الذي اتحفنا به التلفزيون المصري، ولا عند الادعاءات بأن المتظاهرين اعتدوا على الشرطة العسكرية، فهذا كلام كذّبه مشهد العربات العسكرية وهي تدوس المتظاهرين.
بل اريد ان اتوقف عند الدلالات السياسية الخطيرة للمذبحة، وما حملته من مؤشرات على قدرة الثورة المضادة على التلاعب بالمشاعر الغرائزية، بهدف العودة الى حكم الاستبداد، والى العقلية العسكرية الانقلابية.
صحيح ان الجيش المصري لم يقمع الثورة، ما ادى الى التهاوي السريع لحكم الاستبداد المباركي، لكن الصحيح ايضا ان الثورة حررت الجيش من قبضة نظام التوريث الذي حاوله مبارك، وكان ذلك ايذانا بانتهاء الدور السياسي للجيش. اي ان مبارك الذي كان يملك شرعية وحيدة هي شرعية الجيش والانتماء الى القوات المسلحة، قرر في لحظة سكره بالسلطة الانقضاض على شرعيته نفسها. وحين انفجرت الثورة تحرر الجيش من ولائه لرئيس جمهورية وصلت به الأمور الى محاولة تهميش المؤسسة التي انتجت سلطته، من اجل تأسيس جمهورية وراثية في مصر، على غرار الجمهورية الأسدية.
لكن ثورة 25 يناير لم تكن انقلابا، بل كانت ثورة شعبية حقيقية، لذا وجد الجيش نفسه مكبلا بالأفق المدني للثورة، وهنا نما ما يشبه التوازن بين سلطتين: سلطة المجلس العسكري من جهة وسلطة ميدان التحرير من جهة اخرى. وبينما تخلى شباب الثورة تدريجيا عن ميدانهم كان المجلس العسكري يقتنص الفرص للانقضاض من جديد: تفعيل الطوارئ، المحاكم العسكرية، التلاعب بالانتخابات المزمع اجراؤها الى آخره...
هنا وقعت مذبحة ماسبيرو، فالمجزرة هدفت الى اظهار القدرة على البطش، معتقدة ان المقموعين لن يثيروا اي تعاطف لأنهم من الأقباط، بل انه بالامكان اثارة الشارع ضدهم.
وليس استشهاد مينا دانيال، احد الناشطين والقادة في ثورة 25 يناير في ماسبيرو، سوى رسالة عن مضمون المشروع الأحمق الذي يستخدم الطائفية كحجاب من اجل الوصول الى جوهر الموضوع، اي الى اخراج الشعب من الشارع.
اللعبة واضحة وشبه مكشوفة، وهي استمرار للشحن الطائفي الذي مارسه الاستبداد في زمن الرئيس المصري المخلوع. لا جديد سوى اعتبار الأقباط، كونهم اقلية، مكسر عصا، يستطيع العسكر من خلال قمعهم، خلق التفاف شعبي حول فكرة الاستقرار التي يمثلها حكم الجيش!
الرد على مذبحة ماسبيرو وعلى القتل الهمجي، لا يكون بالبكاء فقط، بل باستعادة الثورة لمصدر قوتها، اي للميدان وحق التظاهر، كي لا يعتقد الضباط انهم يستطيعون الاستيلاء على الثورة من خلال موقعهم في السلطة الانتقالية.
في المقابل طرحت مذبحة ماسبيرو والشحن الطائفي المقيت الذي اثير من حولها مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي لا تستطيع الثورات العربية تجاهلها او تأجيلها، لأنها قد تشكّل ثغرات تتسلل منها الثورة المضادة لتقويض ثورة حققت اول اهدافها كالثورة المصرية، او شلّ ثورة هي في طريقها الى النصر كالثورة السورية.
السؤال الأول هو سؤال الدولة المدنية. هذا المصطلح الجديد الذي اعتمد كبديل عن مصطلح الدولة العلمانية، غامض ويجب ايضاحه. فالدولة المدنية تعني دولة مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، مرجعها هو القانون الوضعي، وهي على مسافة واحدة من جميع المجموعات الدينية او القومية في البلاد. المساواة ليست شعارا فارغا من المضمون، المساواة تعني ان المواطنة هي اساس الحياة السياسية، وان القبطي في مصر اوالسرياني او المسيحي اوالكردي في سورية يتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المسلم. صحيح ان الاكثرية الساحقة من المواطنين في العالم العربي ينتمون الى الاسلام، لكن هذا الواقع لا يغير في الأمر شيئا، سوى انه يرتّب على المسلمين مسؤوليات اكبر في حماية فكرة المساواة والذود عنها.
السؤال الثاني هو سؤال الحرية، والحرية وحدة لا تتجزأ، انها حرية الفرد الكاملة في صناعة حياته، ضمن الحدود التي يرسمها القانون، وحرية الجماعات الدينية المختلفة في ممارسة شعائرها وبناء دور عباداتها والشعور بالأمن والآمان. كما انها حرية العمل الحزبي والنقابي والاجتماعي.
السؤال الثالث ويتعلق بالممارسة الديموقراطية التي يجب ان تنأى بنفسها عن الخطاب العنصري والطائفي والمذهبي.
السؤال الرابع هو سؤال العدالة الاجتماعية، وكفّ ايدي عصابات المافيا عن الاقتصاد الوطني، وبناء اقتصاد منتج.
السؤال الخامس هو سؤال الأمن القومي العربي، وبناء اطر جديدة وفاعلة لمواجهة العنصرية الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي.
في هذا الانفجار الديمقراطي العربي الكبير الذي يأتي بعد عقود من الديكتاتورية والاستبداد، كان من الطبيعي ان تنفلت بعض الغرائز، لكن مفاجأة الثورة لنفسها كان في قدرتها على لجم هذه الغرائز، وفرض خطاب مساواتي تجلّى في ابهى صوره في ميدان التحرير من خلال التلاحم بين المسلمين والأقباط، كما صنعته الثورة السورية من خلال الأسماء التي اطلقتها على ايام الجمعة المختلفة: صالح العلي، الجمعة العظيمة، آزادي...
والملاحظ ان القوى التي حاولت اطلاق الشعارات الطائفية هي النظام الاستبدادي وبقايا اجهزة القمع من فلول النظام المصري او من عصابات الشبيحة في سورية، وبعض القوى السياسية التي التحقت متأخرة بالثورة. قدرة القوى الطائفية والعنصرية على التحرك مرتبطة بتراخي الثوريين واسترخائهم. وهنا يقع عقب اخيل الذي تحاول الثورة المضادة استغلاله.
الثورة لم تنتصر بعد لا في مصر ولا في غيرها، الثورة مسار طويل ومعقّد، لكن على الثوريين العرب الذين افتتحوا عصر الثورة السلمية الديمقراطية ان يعرفوا ان الساحات والشوارع يجب ان تبقى في ايديهم لأنها مكان تأسيس النظام الديمقراطي المدني البديل واطاره.