مالك التريكي


لم تنتظر المجتمعات المدنية الإفريقية سريان عدوى الثورات الشعبية العربية إلى بلدان غربية مثل إسبانيا واليونان وأمريكا، حيث تحولت حركات الاحتجاج الشبابية إلى انتفاضة راديكالية شاملة ضد الأسس -أسس ايديولوجيا اقتصاد الكازينوهات المعروف باسم 'الاقتصاد النيوليبرالي'-، لتطرح السؤال. بل إن بداهة السؤال فرضت نفسها منذ نجاح الثورة التونسية: متى ستنتفض شعوب إفريقيا جنوبي الصحراء في ثورات تطيح بأنظمة الحكم الصدئة الناهبة الكاذبة؟ كما أن إشكالية الجواب فرضت نفسها منذ البداية: صحيح أن هنالك شبها بين أنظمة التسلط العربية والإفريقية لكن هنالك في كثير من البلدان الإفريقية خصائص مانعة، أو معرقلة، لاندلاع الثورات حاليا. هذا هو الرأي النافذ، ولو أنه رأي رسمي في الأساس، حيث تقول به دوائر السلطة والفئات المنتفعة من الأنظمة القائمة وجميع الأوساط المتعصبة لمقولة 'الاستقرار'. أما الرأي الأوسع انتشارا في الأوساط الشعبية فهو أن المسألة مسألة وقت ليس إلا.
الطريف أن مستشارا (على كره منه) لأحد الطغاة الأفارقة أبلغني قبل أيام أنه واثق من قرب اندلاع الثورات الشعبية في عدد من البلدان الإفريقية. بل إنه قال إن الطاغية بات قلقا متوجسا رغم أنه لا يزال يسيطر، بطريقة شبه قذافية، على كل شاردة وواردة في البلاد. وقد بلغ به الأمر حد بدء أخذ الاستعدادات اللازمة لعهد ما بعد السلطة! بل إنه وصل إلى آخر المراحل وأصعبها: أي الاستعداد النفسي (الذي سبقه الاستعداد المالي طبعا). أما أسباب هذه الحكمة التي تنزلت فجأة على الحاكم المستبد، فقد عزاها المستشار إلى إفاقة جزئية على دوي الثورات العربية وإلى غرق كلي في العشق الحلال! قلت: ما وجه العلاقة؟ فأجاب بأن الرجل متيم بزوجته الأجنبية، وأن الأقدار شاءت أن تكون الزوجة الحسناء كارهة للعيش في بلاده الكئيبة. نتيجة هذا الكوكتيل؟ تشجيع الزوج المطيع على هجر الحكم والبلاد نظير التنعم بما جمعا من الثروات الطائلة في بلاد الله الواسعة!
رواية طريفة لا تزال وقائعها جارية في الخفاء. أما الأطرف في رأيي، لأنه وقع جهارا نهارا، فهو ما أتاه قبل حوالي أسبوعين عبد الله واد رئيس السنغال الطامع في ولاية إضافية رغم أنف الدستور. كانت انتفاضة 23 حزيران (يونيو)، التي كتبنا عنها هنا في إبانها، إنذارا بأن الشعب يريد إسقاط الرئيس: أي إلزامه باحترام الدستور والانصراف في حال سبيله عند نهاية ولايته الثانية في شباط (فبراير) القادم. وعبد الله واد هذا مزيج من مبارك ومن علي عبد الله صالح. كان يسعى لتوريث الحكم لابنه كريم، لكنه لم يكن مستعجلا. ذلك أن هدفه الأعجل هو إطالة أمده هو في الحكم، رغم أن عمره الفعلي قد تجاوز الخامسة والثمانين! وعندما تأكد له بفعل الانتفاضة أن الشعب يرفض التوريث، أصبح كل جهده منذئذ منصبا على خزعبلات الفقه الدستوري، عساها تكتب له عمرا رئاسيا جديدا. أما آخر الخزعبلات التي تفتقت عنها أذهان دهاقنته، فهي تنظيم ندوة في داكار لخبراء في الفقه الدستوري من.. فرنسا وأمريكا! وبما أن هذا العمل الأكاديمي الصرف يتضمن، وجوبا، برنامجا سياحيا للترفيه عن الضيوف (الذين تبين أن بعضهم لم يكن له علاقة بالفقه الدستوري ولا يحزنون، حيث كان معظم الضيوف الأمريكان متخصصين في النزاعات التجارية والعلاقات العامة) فقد كان لا بد من تحميل خزينة الدولة عبء كل النفقات من سفر وإقامة وسياحة. ماذا فعل الخبراء الأجانب مع هذا الدستور الذي ينص بفرنسية واضحة على أن الرئاسة محدودة بولايتين؟ أجالوا الرأي وتداولوا الأمر في داكار أياما. وفجأة توصلوا إلى نتيجة بالغة البراءة: لا مانع دستوريا في إعادة ترشيح عبد الله واد لولاية ثالثة!
مشهد معيب لخصه أحد رجال القانون العام والفقه الدستوري من أبناء البلاد بأن علق متهكما: 'بما أن الرجل الأبيض هو المتكلم، فلا بد أن يكون الكلام صحيحا'. أما المرشح الرئاسي الحاجي ضيوف فقد قال في رثاء الحال: 'ما قولكم بخبراء أجانب أتونا يشرحون لنا اللغة الفرنسية. إن هذا لمما يؤذي سنغور في قبره'... يبقى أن الصحافة حاولت، على كل حال، الاستفسار من حاشية عبد الله واد عن تكاليف هذه الندوة 'الدولية'. فبماذا أجاب شهود الزور؟ قالوا: 'ليس هذا هو المهم'، بل كان الأجدر أن تدركوا 'الجانب العلمي للحدث'!