فاروق حجي مصطفى

بدايةً، لا بد من ذكر أن المتحمسين للمساهمة في الاحتجاج سبق لهم أن تلقوا -سواء أكان بشكلٍ مباشر أم غير مباشر- نصيباً من الأذية من مفاعيل السلطة المختلفة، فمثلاً عانى الأكراد منذ عام 2004 من وطأة القمع المدقع المتمثل في الاعتقالات ومنع النخب من مغادرة القُطر، وحتى منع العامل العادي الذي يود العمل بكردستان العراق. ولو تمعنا في مسار الاحتجاجات لرأينا كيف تتطور من منطقةٍ إلى أخرى وغالبية هذه المناطق تعتبر مناطق مهمشة سياسيا وخدمياً. ولا نستغرب أن تشكل هذه المناطق اليوم حاضنة التغيير وقد تكون أيضاً نواةً لبناء نظامٍ سياسيٍ وثقافي جديدٍ ومختلف إلى حدٍ بعيد عن النظام السائد وهنا لا أقصد فقط النظام السياسي الرسمي، بل أقصد الحالة السياسية والثقافية والحراكية قبل 15 مارس؛ إذ يبدو أن التغيير سيشمل بنية التفكير السياسي للحكم وللمعارضة على حدٍ سواء، فالشعار -أو الخطاب- الذي تحمله السلطة هو نفسه الذي رفعته طيلة السنوات الماضية حتى على مستوى المفردات المستخدمة، والمعارضة ليست بريئة من ممارسة ذات السلوك؛ إذ تعاني هي الأخرى من أزمة تغييرٍ في بنية نظامها وتركيبتها.
ولا نستغرب.. أمران صارا عصيين على مزاج الطبقة السياسية، الأمر الأول: العفو العام عن سجناء الرأي، وطي صفحة الاعتقالات السياسية، والثاني: الجلوس على طاولة الحوار مع المعارضة الديمقراطية والاعتراف بها، والشروع في فتح آفاقٍ جديدةٍ أمام السوريين جميعاً الذين لطالما نادوا بالتغيير. العفو العام يضع السلطة في اختبارٍ جدي، ويمهد طريق التفاهم بين المعارضة والسلطة حول بناء عقدٍ سياسيٍ جديد ينقذ الوطن من انزلاقاتٍ لا تحمد عقباها. أما الحوار مع المعارضة فله دلالة سياسية ومجتمعية قادرة على التأثير في المزاج الشبابي، والتنبيه إلى أن ثمة ذهنية جديدة قد بدأت مع الاعتراف بالآخر المختلف سياسياً. والحق أن تحقق هذين الأمرين سيساهم في بلورة واقعٍ سياسيٍ جديد، ويخفف من مستوى الاحتقان الذي صار وقوداً للتضحية، وحتى لو لم يعبرا عن كل مطالب المحتجين إلا أنهما الآن ركائز مرحلةٍ يمكن التأسيس عليها.
وفي هذا الفضاء أذكر مقولة ميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي السابق، في صحيفة laquo;أنباء موسكوraquo; الناطقة باسم جناح التغيير آنذاك معللاً إطلاقه لنظرية غلاسنسونت وبريسترويكا (بما معناه) أن الحزب الشيوعي السوفيتي أهمل الجانب الروحي للشباب فحان وقت التغيير عن النمطية الشمولية السائدة في مفاصل الدولة السوفيتية.
يمكن إسقاط ما سلف على واقع الحراك الشبابي السوري؛ إذ إن فحوى ما يجري قريبٌ جداً من مقولة غورباتشوف ولذلك فإن مطالب الشباب لن تقف عند حدود الإعلان عن الإصلاحات، وإنما تسعى لتغييرٍ جذري للنمط الفكري والمعرفي للحالة السياسية والثقافية السورية حتى تتيقن هذه الشريحة من أن ما يجري يلامس فعلاً آفاقها وطموحاتها، وبمعنى آخر فإن حركة الشباب لن يخرسها الآن رفع حالة الطوارئ -التي تسببت بادئ ذي بدء بخلط الأدوار وتشابك الوظائف في المؤسسات الأمنية، عدا عن أن من دفع ثمنها هو المواطن- ولن يكفيها من جهةٍ أخرى ادعاء أو وعود بناء نظام يعتمد على التداول السلمي والتعددية الحزبية. إن مطالب الشاب الذي يرفع شعار laquo;إما أن نكون سعداء على الأرض أو شهداء تحت الأرضraquo; لن توقفها حدودٌ إلا بأن يحيا حراً، لا يكبله قانونٌ استثنائي وبالتالي يقف حجر عثرةٍ أمام تحقيق رغباته وطموحاته.
ولا نستغرب أن كثيراً من الشباب المتحمسين للتغيير لا تهمهم المواقف ولا القراءات السياسية، ولا يرون في الموقف التركي المحرج أي دلالة، ولا يتمعن فيما تقول السياسات الغربية، ولا يهتم بجامعة الدول العربية وموقفها غير المعلن من تطورات الحراك الشبابي والشعبي السوري، كما لا يهمه موقع سوريا الإقليمي وما إن كان هذا الموقع سيشكل عقبة أمام تحقيق حلمه، أم سيشكل عاملاً مساعداً لانتصاره. يجب أن يكون في بالنا أن الشباب وهم ماكينة الحراك الشعبي لا يمكن إيقافهم عند حد معين، إلا بتحقيق فسحةٍ من الحرية، ولعل ذلك يتم بفتح آفاق دولة القانون والإعلام الحر، تغيير سياسة قطاعات الدولة المختلفة، إطلاق الحريات العامة وتنظيم التيارات السياسية لتمارس نشاطها على أساس وطني بقانون الأحزاب، مع إتاحة المجال للعدالة السياسية لتأخذ مجراها في مفاصل الدولة، هم الشريحة الواسعة من المجتمع.
والحق، ورغم توسع دائرة الاحتجاجات ومن بعض الصيحات الهاتفة بسقوط النظام، فإن الرئاسة ما زالت لها مكانة رفيعة في ذهنية الفاعلين في هذا الحراك، ونعتقد أنه ما زال بإمكان هذه المؤسسة -أقصد مؤسسة الرئاسة- أن تلعب دور العامل المشترك للتغيير، حتى أنه قد لا يعترض أي مكونٍ للحراك على أن تقود المؤسسة الرئاسية هذا التغيير عبر التشاور مع الآخر المعارض، ولعل ما يؤكد هذه الفكرة مجموعة البيانات والمبادرات الوطنية سواء تلك الصادرة عن المفكر السوري اليساري طيب تيزيني، أو laquo;المبادرة الوطنية للتغييرraquo;، أو مشروع الأوراق للمثقفين السوريين، عن الأكراد أيضاً، أو المعارضة خصوصا المنضوية تحت لواء إعلان دمشق.
رغم تعقيد مشهد الحراك الشبابي السوري وخياراته بعد ازدياد عدد الضحايا، وتوسع نطاق الاحتجاجات عمودياً وأفقياً وعلى المستويين الجغرافي والسكاني -مشاركة غالبية مكونات الشعب السوري- وتفضيل السلطة للحل الأمني على الحل السياسي للأزمة الوطنية، فإن الحوار الوطني ما زال يشكل مخرجاً لهذه الأزمة. بيد أنه لم يلق آذاناً صاغيةً من قبل السلطات وهي الأحوج إليها أكثر من أي وقتٍ مضى، ويحث عليها حتى المقربون من النظام. بمعنى آخر، السلطة أمام استحقاقاتٍ ملحة ويجب اتخاذ إجراءاتٍ إسعافية لاحتواء وتهدئة الأجواء في المحافظات، وإفساح المجال كي يأخذ المجتمع المدني دوره، وخلق ظروفٍ مناسبة للحوار بين الأطراف السياسية من المعارضة والسلطة وصولاً إلى الشراكة السياسية.