محمد الصياد

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي كانت تسير في فلكه مطلع تسعينات القرن الماضي، والولايات المتحدة الأمريكية مطلقة اليدين تتدخل في أي مكان في العالم، من دون أن تواجه أية صعوبة في ldquo;تمريرrdquo; ذلك التدخل وشرعيته دولياً، ولا في إيجاد المسمى المناسب لتغطيته .

فلقد تدخلت في الصومال وتدخلت في يوغسلافيا السابقة بكل يسر وسهولة، حيث لم تجد من يعترض على ذلكم التدخل الذي وضعته في خانة التدخل الإنساني وانتهى بتصعيد وتمكين السلفيات الإرهابية في الصومال التي أعادته إلى زمن الوحشية، وإلى تمزيق وتقسيم يوغسلافيا إلى دويلات على أسس عرقية ودينية .

بمعنى أن الولايات المتحدة تعمل بجدية ومثابرة، منذ إطاحتها سلمياً بالاتحاد السوفييتي في عام ،1991 على تغيير العالم، متنقلة من منطقة جغرافية إلى أخرى . فبعد أن نجحت في إعادة تغيير الخريطة الجغرافية والجيوسياسية في أوروبا الشرقية والوسطى والاسكندنافية وضمنت استتباب الأوضاع فيها بإلحاقها بمنظمة حلف شمال الأطلسي وتأهيلها للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وبعد أن كفت عن دعم ومساندة أنظمة الحكم العسكرية الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية على مدى سنوات الحرب الباردة (1945 - 1990) وأطلقت ldquo;سراحهاrdquo; لتقرر مصيرها بنفسها، فكان أن وجدت بلدان أمريكا اللاتينية نفسها بالانتقال السلمي للديمقراطية، فقد قررت توجيه دفة اهتمامها وسياستها الخارجية صوب منطقة الشرق الأوسط والمشرق والمغرب العربيين منه على وجه الخصوص، وهي منطقة تحتل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية موقعاً مركزياً في الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية الأمريكية .

وقد جاء خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما يوم الخميس 19 مايو/أيار ،2011 ليؤكد ويكرس ذلكم التوجه الجديد للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية، بما احتواه الخطاب من معالم وخطوط عريضة لهذه السياسة تتمحور أساساً حول نقل الثقل من تأمين الاستقرار الضروري لانسياب حركة المصالح الأمريكية الاستراتيجية والجارية من خلال دعم الأوضاع الجيوبوليتيكية السائدة، إلى تأمين الدعم للاستقرار المستدام القائم على أخذ آمال وطموحات الأجيال الصاعدة في المنطقة في الاعتبار .

هذه على الأقل القراءة الأكثر شيوعاً لدى الكثرين هنا في منطقتنا، ومؤداها أن إدارة الرئيس أوباما تحديداً قد أحدثت انعطافة نوعية في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية .

وهي قراءة تستبعد، كما نرى، احتمال ألا يكون هذا التغيير في السياسة الأمريكية وليد اللحظة، وإنما هو نتاج دراسات مراكز أبحاث أمريكية كانت تخلص في نتاجاتها إلى جدوى ووجاهة نقل الثقل من تأمين الاستقرار القائم على دعم الأوضاع القائمة كأمر واقع إلى تأمين الاستقرار المستدام القائم على التماهي مع تطلعات شعوب المنطقة .

إلى ذلك أيضاً، لماذا لا تكون الإدارة الأمريكية، وليس الرئيس أوباما وحده، قرأت بتمعن أبعاد ودلالات حركات الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي في ضوء وسياق ما كانت خلصت إليه وأوصت به دراسات مراكز الأبحاث الأمريكية المعروفة بتقديمها النصح والمشورة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وتصرفت على أساسها؟

طبعاً هذا لا يعني أن الولايات المتحدة سوف تعمل على توفير الغطاء والدعم لتحولات جذرية (ثورية إن جاز التعبير) في العالم العربي، بقدر ما سوف تعمل على تشجيع الأنظمة العربية على القيام بإصلاحات عميقة (وصفها الرئيس أوباما في خطابه سالف الذكر بالحقيقية) تستجيب وتتواكب مع متطلبات التماهي والتواسق مع حركة العمران (بحسب توصيف ابن خلدون للحضارة) العالمية .

وهو بالقطع لا يعني أيضاً أن الولايات المتحدة قد بدأت تضع المبادئ قبل المصالح في علاقاتها الدولية . فهذا لن يحدث بالتأكيد وذلك لسببين اثنين رئيسين:

1- رغم أن الولايات المتحدة تعد نفسها بلد الحريات الأول في العالم وتقدم نفسها دوماً على أنها المنافح والمدافع الأول والأجسر عن صون الحريات وحقوق الإنسان في العالم، إلا أنها تبقى أيضاً النموذج الرأسمالي الأكثر شراسة، وهي لذلك موطن الفلسفة البراغماتية التي لا تقيم وزناً للأفكار ما لم تكن مقترنة بالمصالح الفردية .

2- إن الأوضاع المالية والاقتصادية الصعبة التي تجتازها الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية/ الاقتصادية العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي في عام ،2008 لا تمنحها الميزة التي طالما نعمت بها طيلة العقود الماضية . فهي مضطرة للبحث عن إعادة بناء طاقاتها وقدراتها الاقتصادية، بما يعني قضاء وقت أطول وبذل جهود أكثر من السابق في الانشغال بالداخل وتسخير أوراق النفوذ الخارجية لخدمة تلك المهمة .

ومع ذلك يبقى الأمر سيان، فسواء نُسب فضل التغيير في السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس أوباما أو لغيره من شاغلي البيت الأبيض السابقين، فالتغيير واقع على أية حال .