صبحي حديدي


عند إعلان التلفزة السورية عن صدور المرسوم التشريعي رقم 61، الذي قيل إنه يمنح عفواً عاماً عن 'الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 31/5/2011، وبعد ساعات معدودات أعقبت ذلك الإعلان، كان عدد الشهداء في بلدة الرستن قد تجاوز الـ60، بينهم الطفلة مروة حسان شخدو (أربعة أعوام) التي استُشهدت أثناء مداهمة منزل عائلتها. كذلك تعرّض الشهيد وائل خطاب للقنص وهو على دراجة نارية، ومعه ولده (خمس سنوات) وبقيت جثته ملقاة على الطريق، والطفل بجواره، فترة طويلة لأنّ كثافة إطلاق الرصاص كانت تحول دون الاقتراب من الشهيد وطفله.
في البلدة ذاتها استخدم ضبّاط النظام المدفعية الثقيلة والدبابات في قصف أهداف محددة (منتخبة بعناية، كما يتوجب القول)، بينها مخبز المدينة الآلي، والمدينة الرياضية، وحيّ طويلة، وحيّ الصناعة، إلى جانب مساجد أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد والعمري والمحمود والأشتر، فضلاً عن هدف عجيب بعض الشيء: منزل العميد الركن زياد المدني! في غضون عمليات القصف العنيف هذه، كانت الحواجز العسكرية والأمنية تمنع إدخال أيّ نوع من المساعدات الغذائية أو الطبية إلى أهالي الرستن؛ كما تولّت مفارز أمنية عمليات خطف الجرحى من الشوارع، وتجميع جثث القتلى في أكياس من الخيش.
ليس غريباً، ولا هو بالتطوّر الجديد، أن يجمع النظام السوري بين العفو وجريمة الحرب؛ وأن يهب 'المكرمة'، كما تصف الأبواق مراسيم العفو، ويرتكب المذبحة، في آن. لكنّ الدلالة الأبرز هنا هي اتضاح المزيد من علائم التخبّط الذي تسقط فيه، كلّ يوم، بل كلّ ساعة، خيارات النظام في مواجهة انتفاضة لا تكفّ عن التنامي والاتساع، ولا تسير دينامياتها العديدة المتعددة إلا إلى أمام، وإلى نضج في الشعارات، وذكاء في أساليب تنظيم التظاهر، وصفاء في الرؤية السياسية، رغم اشتداد العنف وتعاظم الأثمان الفادحة. العلامة، هنا، أنّ النظام لا يزداد عزلة، أمام حلفائه قبل خصومه، فحسب؛ بل تتكشف التناقضات داخل حلقته الأضيق، وتزداد الكسور في المجمّع العسكري ـ الأمني ـ المالي الذي ظلّ يضمن تماسك مكوّناته، رغم تنافراتها.
هذه ليست دولة قانون، كما نعرف ويعرفون، ولكنها أيضاً لم تعد نظاماً يلتزم بالقوانين ذاتها التي يسنّها بنفسه، لصالح تجميل صورته تارة، أو ذرّ الرماد في العيون طوراً، أو الإنحناء المؤقت أمام عاصفة تمرّ بين حين وآخر. ومثال القانون 61 هو الأحدث عهداً في تبيان هذه الحال، إذْ نُشر في غمرة تهليل وتطبيل بوصفه 'عفواً عاماً' عن جميع 'الجرائم' المرتكبة قبل تاريخ نشره؛ لكنّ المادّة 2 من القانون تستثني من الإعفاء أكثر من 50 مادّة في قانون العقوبات، وقوانين أخرى سابقة، بينها المادّة 306 التي استند إليها قضاة المحاكم الإعتباطية في الحكم على نشطاء المجتمع المدني وسجناء الرأي.
وهكذا، حتى كتابة هذه السطور، لم يُفرج عن علي العبد الله، مهند الحسني، مشعل تمو، مازن عدي، نجاتي طيارة، خلف الجربوع، وائل حمادة، عبد الله الخليل، تامر الجهماني، المدوّنة الصبية طلّ الملوحي، عبد الرحمن حمادة، أعضاء المنظمة الآثورية، وسواهم. كما لم يُسقط القانون الملاحقة القضائية عن أمثال سهير أتاسي، ملك شنواني، سيرين الخوري، دانا الجوابرة كمال شيخو، فايز سارة، عمر قشاش، جورج صبرة، عبد الناصر كحلوس، حسن عبد العظيم، وسواهم من النشطاء الذي أحيلوا إلى القضاء واُفرج عنهم بكفالات مالية.
المرء، في المقابل، يعبّر عن الابتهاج البالغ للإفراج عن تهامة معروف، ومعتقلي 'حزب العمل الشيوعي'، عباس عباس وتوفيق عمران وغسان حسن وأحمد النيحاوي، الذين كانوا قد اعتُقلوا في أيار (مايو) 2009، وحُكم عليهم بالسجن لمدّة أربع سنوات. ورغم أنّ هؤلاء استردّوا حقاً لا يمارى في الحرّية، ولم يتلقوا 'مكرمة' أو 'هبة' من سجّانهم الأوّل، رأس النظام؛ فإنّ المفارقة كانت صارخة حول القيمة الفعلية للقوانين ذاتها التي تسنّها أو تستند إليها السلطة: لقد حوكموا، وحُكم عليهم، بموجب المادّة 306؛ وتمّ الإفراج عنهم بموجب قانون العفو رقم 61، الذي يستثني من أحكامه... المادّة 306! في عبارة أخرى، الأجهزة الأمنية التي اعتقلت هؤلاء دون سند قانوني سليم، أطلقت سراحهم دون سند قانوني سليم، وبالتالي قد تلجأ إلى اعتقالهم مجدداً ساعة تشاء، دون سند قانوني سليم!
في الجانب الآخر، 'السياسي' المكمّل لخيارات قمع الإنتفاضة بالمدفع والدبابة والرصاص الحيّ وإطلاق قطعان القنّاصة و'الشبّيحة' واعتقال المتظاهرين بالآلاف وليس بالمئات، أصدر الأسد قراراً جمهورياً بتشكيل 'هيئة الحوار الوطني'، التي 'تكون مهمتها وضع الأسس لحوار وطني وتحديد آلية عمله وبرنامجه الزمني'. وعند اجتماعه بأعضاء هذه الهيئة، قال الأسد إنّ عليها 'صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، لتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة وخاصة فيما يتعلق بقانوني الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، والمساهمة في وضع حد لواقع التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية'.
مهامّ جليلة، لا ريب، ما خلا حقيقة أنّ أعضاء اللجنة ليسوا سوى أبناء النظام (نائب الرئاسة فاروق الشرع، وهيثم سطايحي عضو القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، و ياسر حورية زميله في القيادة)؛ أو المتحالفين معه في ما يُسمّى 'الجبهة الوطنية التقدّمية' (صفوان قدسي الأمين العام لـ'حزب الإتحاد الاشتراكي العربي'، وحنين نمر الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل)؛ أو المسبّحين بحمد النظام (عبد الله الخاني، وليد إخلاصي)؛ أو العاملين في مؤسساته (منير الحمش، إبراهيم دراجي). كيف، بمعزل عن حوار الطرشان، يمكن لهؤلاء أن يقدّموا إلى رئيسهم 'أفضل السبل لتحقيق حوار وطني يستوعب كل أطياف المجتمع، ويعكس اهتمامات ومصالح مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، التي تؤمن بالحوار سبيلاً لتحقيق الإصلاح والنهوض بالعمل الوطني وتعزيز وحدة البلاد'، كما قالت وكالة أنباء 'سانا' الحكومية في وصف اجواء اجتماع الأسد بهم؟
ذكر الله بالخير السيدة سميرة المسالمة، التي خالت أنها تستطيع الإنفتاح على بعض شخصيات المعارضة، فلقيت من الرئاسة بطاقة حمراء تتضمن الطرد الفوري من الحلبة، حتى دون إنذار ببطاقة صفراء! اليوم لا يكترث الأسد بضمّ أي اسم قد يوحي بأي ارتباط، مهما كان واهياً وغير مباشر، بأيّ من قوى المعارضة أو الرأي الآخر؛ ومطلوب من المواطن السوري أن يصنّف، شاء أم أبى، أشخاصاً مثل القدسي ونمر في صفّ المعارضة، حتى إذا أبوا هذا، هم أنفسهم! وعلام، وفيم، سيتحاور هؤلاء إذا كانوا يقفون خلف قائدهم كالصفّ المرصوص، يؤمنون معه أنّ سورية تتعرّض لمؤامرة إمبريالية شرسة، وأنّ غالبية المتظاهرين مندسّون سلفيون عملاء؟
ومنذ سنة 2000، في خطاب القسم الذي أعقب توريثه السلطة، أعلن الأسد الابن أنه إنما يسير (وسار بالفعل، طيلة 11 سنة بعدها) على نهج والده في كلّ ما يخصّ الحياة السياسية والحزبية في سورية، فأغدق المديح على صيغة 'الجبهة الوطنية التقدمية' بوصفها المثال على 'نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة'، وتناسى ما يعرفه كلّ مواطن سوري راشد: أنّ هذه الجبهة خُلقت جثّة هامدة منذ البدء، وتعفّنت طويلاً، وزكمت رائحة موتها الأنوف، وأحزابها ليست سوى حلقات تصفيق وتهليل ومباركة ومبايعة. وإذا كان الأسد الابن قد تحدّث عن ضرورة تطوير صيغة عمل الجبهة 'بما يستجيب لحاجات التطوير الذي يتطلبه واقعنا المتطور والمتنامي'، فإنّ الأسد الأب كان قد تحدّث هكذا في كلّ خطاب قسم خلال السنوات الثلاثين. الجبهة العتيدة بقيت على حالها، وبقي عجائزها العاجزون كلٌّ في مكانه وموقعه: لا حياة لمن تنادي!
كذلك أعاد الابن إنتاج خطاب أبيه في مسألة الديمقراطية، مع تغيير وحيد هو اللغة الفلسفية التي يستخدمها هو، أو كاتب خُطبه، والتي تختلف عن اللغة الجافة الإستعلائية التي كان يستخدمها كاتب خُطب الأسد الأب. الابن سيقول إنّ 'الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا'، أيّ أنّ ممارسة الديمقراطية ليست حقّ المواطن أوّلاً، بل هي التالية بعد واجبه تجاه 'الآخرين'، الذين لا يمكن أن يكونوا سوى الدولة ذاتها. يؤدّي المواطن واجبه أوّلاً، وبعدها نبحث في حقوقه. هذا هو جوهر الحذلقة في التهرّب من المسألة الجوهرية التي تقول إنّ انفصال الحقوق عن الواجبات، أو تفصيل الحقوق على مقاس الواجبات، هو المدخل الكلاسيكي الذي مكّن أنظمة القمع والإستبداد من تدجين المواطن وتغييب حقوقه تحت مظلة واجبه تجاه 'الوطن'، الذي ليس سوى مزرعة القاهر، وملعب السلطة.
خطاب القسم الثاني، 2007، سوف يستأنف، أيضاً، تلك الفلسفة الرئاسية 'الشابة' (إذْ هكذا قدّمها ثقاة النظام وبعض المتفائلين)، التي نظّرت وتنظّر على نحو مقارن بين ديمقراطية النظام والديمقراطيات الغربية، حيث ينبغي 'أن تكون لنا تجربتنا الديمقراطية الخاصة بنا، المنبثقة عن تاريخنا وثقافتنا وشخصيتنا الحضارية، والنابعة من حاجات مجتمعنا ومقتضيات واقعنا'. وبعد أسابيع معدودات على وأد تجربة المنتديات، وما عُرف باسم 'ربيع دمشق'، حين شُنّت حملة اعتقالات شملت ناشطين بارزين مثل رياض سيف وعارف دليلة ومأمون الحمصي وحبيب عيسى، وإعادة اعتقال المعارض الكبير رياض الترك؛ قال الأسد ما يلي في وصف ذلك التحرّك، بسخرية ظاهرة: 'كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح. فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحبّ الشتاء'... النظام، في متابعة خيارات العنف وذرّ الرماد في العيون، سواء بسواء، استقرّ على شتاءاته التي يحبّها، وصار سلوكه في معمار القيادة والسيطرة أكثر ركوناً إلى حلقة في القرار أضيق فأضيق، في أعلى هرم عائلي أو شبه عائلي، على نقيض ما تمكن الأسد الأب من بنائه خلال عقود حكمه، ولا سيما السنوات العاصفة لأواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات. ذلك لأنّ الأب نجح مبكراً في تشكيل طاقم أمني ـ عسكري ـ سياسي متماسك من حوله، ضمّ ضباطاً من أمثال رفعت الأسد وعلي دوبا ومحمد الخولي وعلي حيدر وحكمت الشهابي وشفيق فياض وابراهيم صافي ومحمد ناصيف، ومدنيين من أمثال عبد الحليم خدام وعبد الرؤوف الكسم ومحمد حيدر؛ أمّا الأسد الابن فإنه يفضّل إحاطة القصر بالأخ والأخت والصهر والخال وابن الخال.
بيد أنّ ربيع سورية، الذي انطلق ـ ليس دون مفارقة بديعة بهيجة ـ منتصف آذار (مارس) الماضي، يضع النظام وجهاً لوجه أمام مصائر أبعد عاقبة من التفلسف الساخر حول الفارق بين الربيع لفظاً، والربيع سياسة. وما تشهده سورية اليوم من تنويع النظام بين العفو والمذبحة، وتشكيل هيئة حوار وطني في غمرة قصف المدن وحصارها، يقرّب السلطة من شتائها الأخير الوشيك، مثلما يضع الشعب على مبعدة أسابيع من ربيع الحرّية المديد، الآتي لا محالة.