رضوان السيد

لقد كان الأجدى لو كان التغيير قد اكتملت مرحلته الأولى؛ الانصراف للتفكير بطرائق قوى التغيير السلمي بمصر وتونس في بناء أو تكوين السلطات الجديدة. إذ إن هناك قضايا مهمة بالفعل في عمليات البناء السياسي بعد سقوط النظامين المصري والتونسي. إن تلك القضايا تتعلق بمستقبلنا جميعا نحن العرب، على مشارف انقضاء مرحلة الجمود والانقسام والاستبداد السلطوي السياسي والثقافي والاقتصادي. بيد أن مشهد التأزم العنيف في كل من ليبيا واليمن وسوريا، لا يزال يلقي بظلاله الرمادية الدامية على البلدان الثلاثة، وعلى إمكانيات قوى التغيير العربي وقدراتها في المدى القريب. ويقتضي ذلك منا إلقاء نظرة متابعة ومراجعة على هذا المشهد لاستكشاف العناصر الفاعلة والأخرى المعطلة في العمليات التغييرية.

فإذا بدأنا قراءة المشهد من ليبيا، نلاحظ أن القوى الصناعية الثماني الكبرى (G8) اهتمت في اجتماعها الأخير بمنطقة جنوب المتوسط، أي مصر وليبيا وتونس. والملاحظ - غير المساعدات التنموية الكبيرة التي جرى تقديمها لمصر وتونس - أن الرئيس الجزائري حضر مؤتمر القوى الثماني، وتحدث إلى الآخرين عن ليبيا والجزائر. إذ لولا الجزائر لسقط النظام الليبي منذ مدة. والمفهوم أن الرئيس الجزائري تلقى ضمانات بمهلة للإصلاح عنده، في مقابل تخليه عن دعم النظام الليبي، وهو الأمر الذي سبق أن فعله الرئيس الروسي. ولذا فبعد المؤتمر مباشرة أرسل الرئيس الجنوب أفريقي زوما إلى القذافي لمفاوضته على الخروج الآمن. وكما فشل زوما في زيارته الأولى، فشل في زيارته الثانية، وأعلن القذافي أنه يريد أن يموت في بلده. ولا تنتهي مشكلات ليبيا بالطبع برحيل القذافي وأولاده؛ فهناك الاضطراب القبلي الذي اصطنعه القذافي، وهناك الإدارة السياسية للمرحلة الانتقالية، والتي يكون عليها بالإضافة إلى البناء السياسي، إعادة الإعمار. وهناك إعادة ترتيب قطاع النفط، والذي تخربت إدارته منذ عقدين، وازدادت خرابا في الحرب الأخيرة. وهناك أخيرا، بل أولا إعادة بناء الجيش الليبي والقوى الأمنية الضرورية لصون أمن المواطنين، وأمن الإدارة، وعلاقات ليبيا مع دول الجوار.

أما وضع اليمن فهو صعب من جهة، لكنه أسلم من الوضع الليبي. فقد دفع الحراك الشعبي الواسع الاتجاهات المختلفة داخل اليمن للتجمع في الساحات والتحادث والتشاور. وتزعمت الاحتجاج مدينتا تعز وصنعاء. وما تحركت أحزاب اللقاء المشترك المعارض والقبائل إلا بعد شهرين من الحراك الشبابي الزاخر. وكان علي عبد الله صالح يراهن على عدة ورقات بالإضافة إلى قوات الأمن: وقوف الجيش معه، وخوف الخليجيين من laquo;القاعدةraquo; أن تقوى إذا ضعف النظام أو دبت الفوضى. والخوف من الحرب الأهلية بين الحوثيين والقبائل، والخوف من الفتنة الزيدية / السلفية. وخوف الخليجيين من الفوضى على حدودهم إذا سقطت السلطة. وبالفعل فإن الأميركيين والخليجيين تأخروا حتى تقدموا بوساطتهم، ولم يصارح النظام بالعداء غير دولة قطر.

وانهمك الخليجيون والأميركيون في الوساطة لتقرير رحيل علي عبد الله صالح في زمن محدد. وقد قبل علي عبد الله صالح الوساطة في المبدأ، لكنه ظن إمكان التلاعب بمسألة الرحيل إلى آخر العام. ثم بدأت الانشقاقات في الجيش. فأخوه لأمه علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى، قرر الانضمام للمتظاهرين. والفرق والكتائب الجنوبية في الجيش فقدت حماستها للقتال أو للانحياز إلى الرئيس. فانتقل صالح لتكتيك التفرقة بين أحزاب اللقاء المشترك والمتظاهرين. ثم وهو يحبط الوساطة الخليجية برفض التوقيع، حرك مصدرا للقوة فيما اعتقد حين ترك laquo;القاعدةraquo; تسيطر على مدينة زنجبار، مشيرا بسبابته إلى الغربيين والسعوديين أن الوضع بعده: انقسام داخلي، وصعود لـlaquo;القاعدةraquo;. وفي الوقت نفسه بدأ عملية قمع المتظاهرين في تعز. وقام أخيرا بالاصطدام بشيخ مشايخ حاشد (وهي قبيلته) صادق الأحمر. وبذلك نفذ التهديد الثاني بعد قصة laquo;القاعدةraquo;: الصراع القبلي مع الجيش، وبين القبائل وأحزاب اللقاء المشترك على السلطة. وهذا كله يمكن أن يؤخر تاريخ سقوطه أو مغادرته، لكنه لن يبقي نظامه. فالألاعيب الأخيرة أقنعت الأميركيين قبل السعوديين بأن علي عبد الله صالح نفسه صار مشكلة في وجه الانتقال السلمي إلى سلطة جديدة. ورغم التردد، فهناك اقتناع الآن من جانب الخليجيين والأميركيين بأنه لا بد من الاستناد إلى أحزاب اللقاء المشترك في المرحلة الانتقالية، مع أعضاء من حركات الشباب التي قادت التظاهر ولا تزال.

إنما يغلب على ظن المراقبين، أن ذلك كله لن ينتهي قبل آخر العام، وقد يذهب علي عبد الله صالح ضحية لتفاقم الأحداث، وتزايد أعداد القتلى.

أما الوضع السوري فالمراقبون أكثر حيرة. فحتى وقت قريب، ما كان أحد يطالب بإسقاط النظام في المنطقة أو في الخليج أو الخارج العالمي. وكانت روسيا شديدة الحماس للنظام، وإن طالبه الجميع وبإلحاح بالإصلاح الجذري. إنما في الأسبوعين الأخيرين ما بقي معه علنا غير الأتراك والروس ولأسباب مختلفة. فالأتراك مكلفون بالتفاوض معه وإبقائه على السمع، والضغط عليه بشتى الوسائل. ولأن المشهد ما عاد محتملا، فقد تقدم الأوروبيون، يدعمهم الأميركيون، بمشروع لمجلس الأمن لإدانة قمع النظام لشعبه (نحو الـ1500 قتيل، و20000 معتقل). وكان اجتماع الثماني حاسما بالنسبة لسوريا، مثلما كان حاسما بالنسبة لليبيا، إنما بطريقة أخرى. فقد أرسل هؤلاء رسائل قوية مع الروس والأتراك، وأعطوا في الغالب مهلا محددة. وللمرة الأولى تجاوب النظام بعد طول صمت. فقد عبر عن موافقته على الكشف مرة أخرى من جانب وكالة الطاقة الذرية، عن الموقع الذي سبق أن أغارت عليه إسرائيل.

ثم أصدر الرئيس الأسد عفوا عن كل الجرائم الواقعة قبل 31 مايو (أيار). وهناك من يقول إن القرار غامض ولا يعرف هل يشمل laquo;الإخوان المسلمينraquo; أم لا، بيد أن الأتراك رحبوا به، ودعوا للإسراع والإسراع في الإصلاح. والأربعاء الماضي أصدر الرئيس الأسد قرارا بتشكيل لجنة الحوار الوطني برئاسة فاروق الشرع، وقد يفعل شيئا آخر قبل يوم الجمعة الذي تكثر فيه المظاهرات عادة. ثم إن هناك أمرا آخر هو اجتماع معارضين سوريين كثيرين بمدينة أنطاليا التركية غير بعيد عن الحدود مع سوريا لصياغة مشروع مشترك للإصلاح وانتقال السلطة، والمؤتمر تذيع أخباره وكالة laquo;أنباء الأناضولraquo;. وهكذا فهناك تعاظم للتظاهر بالداخل، وزيادة أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين.

وهناك مناقشة مغلقة لمشروع القرار الأوروبي بمجلس الأمن. وهناك سقوط وظائف للنظام في فلسطين والعراق ولبنان. وهناك اقتراب الحسم في مسألة الدولة الفلسطينية بالتفاوض أو بالانفراد، ولا حل شاملا من دون التفاوض على الجولان. وتبقى ثلاث نقاط يمكن أن تتحول لصالح النظام: الإصلاحات الجذرية السريعة، والدخول من طريق الأتراك في مفاوضات مع إسرائيل، والأهم الأهم عدم بروز طرف أو أطراف ذات صدقية يمكن أن تتولى المرحلة الانتقالية بالأسد أو من دونه.

لقد قال الأمين العام لحزب الله الأربعاء الماضي إن هناك مشاريع ومسارات لتقسيم سوريا، وإذا حصل ذلك فيمكن أن يصل للسعودية (!). وهذا الإعلان لا يخدم السيد نصر الله، ولا الرئيس الأسد ونظامه، وقد يزيد من إصرار الشعب السوري على التغيير!