الحسين الزاوي

باتت الكتل السياسية العراقية قاب قوسين أو أدنى من الغرق في تفاصيل شيطان القوات الأمريكية، بعد أن قبلت مبدئيا ببقاء الجيش الأمريكي بدعوى القيام بمهام تدريب القوات المسلحة العراقية . ولأن الشيطان يقطن في التفاصيل فإن قادة الكتل السياسية في البرلمان العراقي فوّضوا رئيس الحكومة نوري المالكي ليعمل على إجراء المفاوضات الضرورية من أجل التوصل إلى اتفاق يتضمن التفاصيل الشيطانية المُحرجة المتعلقة ببقاء القوات الأمريكية إلى ما بعد نهاية سنة ،2011 وقد حاول أغلب السياسيين العراقيين، خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية، أن يؤكدوا أن بقاء القوات الأمريكية يمثل ldquo;ضرورةrdquo; أمنية بالنظر إلى عدم استكمال الجيش العراقي لاستعداداته من أجل ضمان حماية التراب الوطني ضد أي اعتداء خارجي يمكن أن تفكر قوى إقليمية في القيام به، في صورة ما إذا التزم الأمريكيون بإتمام عملية الانسحاب وفق البرنامج الزمني المحدد .

والحقيقة أنه لا أحد لا من السياسيين الأمريكيين ولا من الزعماء العراقيين، كان مقتنعا حتى الآن، بجدية الموعد الذي أعلنته الإدارة الأمريكية من أجل سحب آخر جندي من جنودها من العراق . فالتجارب السياسية السابقة تُبين أن الإدارة الأمريكية ومنذ نهاية الحرب الكونية الثانية، دأبت على اعتماد سياسة دفاعية تقضي بنشر قواتها في أراضي الدول التي تُمثل بالنسبة لها ضرورة استراتيجية، حيث تشير خريطة الانتشار العسكري الأمريكي إلى أن أغلبية الدول التي تتمركز فيها القوات الأمريكية، كانت وما زالت تشكل تحديا عسكريا وربما اقتصاديا بالنسبة لمستقبل المصالح الأمريكية في العالم، وبالتالي فإنه من غير المعقول وفقا للعقيدة السياسية والدفاعية للبيت الأبيض، أن تغامر الولايات المتحدة بسحب كل جنودها من بلد شهدت قُراه ومدنه مقتل الآلاف من الجنود الأمريكيين، وأنفقت فيه المليارات من الدولارات من أجل استكمال عملية احتلاله وإخضاعه، وذلك من منطلق أنها مازالت تنتظر أن تسمح الأوضاع الداخلية في العراق بقطف مزيد من ثمار احتلالها لهذا البلد الغني بموارده النفطية وبقدراته الفكرية والحضارية الهائلة .

لقد زكمت رائحة التبن أنوف المتابعين للشأن العراقي، بعد أن تم تسريب العديد من الأخبار المتعلقة بمستقبل تواجد القوات الأمريكية في العراق، وأشارت أوساط عديدة إلى أن الطرف الأمريكي اخترق السيادة المفترضة للعراق وتفاوض مباشرة مع قادة الكتل بشكل منفرد من أجل إقناعهم بالمزايا التي يوفرها لهم بقاء قوات الاحتلال . وتوالت التصريحات المُجمِعة على تأكيد حاجة الجيش العراقي إلى بقاء قسم من القوات الأمريكية للقيام بمهام التدريب، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أن الجيش العراقي السابق، الذي تم تسريح كل إطاراته من قبل بول بريمر، يمتلك خبرة وكفاءة عاليتين في التدريب على إدارة الحروب التقليدية المعتمدة على الالتحام المباشر للجيوش، ومن المستبعد وفقا لذلك أن تقدم القوات الأمريكية للقوات البرية العراقية تدريبا يتجاوز من حيث الكفاءة ما هو متوافر لدى النخب العسكرية العراقية التي خاضت حروبا ضارية ضد قوة إقليمية كبرى . ولن نفشي سرا حينما نقول أن نقطة ضعف القوات العراقية تكمن أساساً في عدم توفرها على قوة جوية حقيقية، لأسباب يعود بعضها إلى رفض بعض الأطراف السياسية المحلية لفكرة امتلاك الجيش العراقي لقوة جوية مؤهلة ومجهّزة تجهيزاً كاملاً، الأمر الذي يجعل من بقاء القوات الأمريكية أكثر من ضروري، خصوصاً إذا وضعنا في الحسبان أن الأمريكيين ظلوا شديدي التحفظ حول مسألة تزويد الجيش العراقي بأسلحة جوية متطورة، وبالتالي فإن الترويج لوجود مفاوضات عراقية مع الطرف الأمريكي بشأن إبرام صفقة لشراء طائرات من طراز ف ،16 تزامن مع إعلان الطرف الأمريكي عن ضرورة التوصل في أقرب وقت ممكن إلى اتفاق حول بقاء القوات الأمريكية، والهدف من وراء كل ذلك، هو خلق انطباع لدى العراقيين بأن بقاء جيش الاحتلال سيُسهم في تأهيل وتسليح القوات المسلحة العراقية . ورغم هذا الإخراج السياسي والدرامي المُتقن، فإن بعض الأطراف العراقية كانت أكثر صراحة بشأن الدوافع الحقيقية لهذه الرغبة في التمديد، حينما أشارت إلى أن بقاء القوات الأمريكية من شأنه أن يحول دون وقوع انقلاب عسكري في العراق، وهذا ما يطرح تساؤلات جدية حول طبيعة الالتزام الوطني لهذه الأطراف السياسية التي تثق في جيش الاحتلال أكثر من ثقتها في جيشها الوطني .

ويبدو أن إصرار معظم الكتل السياسية العراقية على القبول بفكرة التمديد لقوات الاحتلال، يهدف إلى تحقيق أجندات غير معلنة قد يكون من بينها ترسيخ ثقافة الانقسام لدى العراقيين وإضعاف ثقتهم في حكم دولتهم المركزية، حتى يتم إقناع مختلف المناطق بrdquo;محاسنrdquo; وrdquo;إيجابياتrdquo; الانفصال، خاصة أن الأصوات التي كانت تدافع عن الاحتلال لكونه قد أسهم، بحسب زعمهم، في تحرير العراق وفي نشر الديمقراطية، أصيب خطابها في مقتل بعد اندلاع الثورات العربية التي سمحت بتحقيق تقدم ديمقراطي تاريخي، أذهل حتى الأوساط الغربية التي لم تكن تتوقع أن ينجح الشعب المصري في تنظيم وإجراء محاكمة حضارية وشفافة لرئيسه المخلوع .

لاشك أن الشعب العراقي كان ولا يزال يراهن على وفاء وتضحية أبنائه المخلصين أكثر من مراهنته على ديمقراطية مزعومة زحفت نحو أرضه الطاهرة فوق ظهر الدبابات الأمريكية، وسيُفشِل العراقيون كل المخططات المشبوهة الهادفة إلى تسفيه انتمائهم الحضاري وإلى النيل من كرامتهم وكبريائهم الوطني، فكل ما بني على باطل فهو باطل حتماً، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .