رغيد الصلح

التاريخ العربي مليء بالعبر والدروس، ولكن هذه المدرسة العظيمة تشكو قلة التلاميذ وضعف الإقبال على التعلم فيها . إذا قيض للثوار والإصلاحيين العرب اليوم مراجعة هذه المدرسة ولو طلبوا منها ان تخصهم ببعض العبر والدروس المستوحاة من تجربة الثورة العربية التي شهدتها المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى لأمدتهم بذخيرة بالغة الأهمية من هذه الدروس والعبر، ولوفرت عليهم الكثير من الصعوبات التي يعانونها اليوم فيما هم يتطلعون إلى تغيير الأوضاع في بلادهم وإلى إقامة نظم ديمقراطية فيها .

من هذه الدروس أن الدعم الخارجي للثورات يخدمها ويساعدها على تحقيق أهدافها، وأنه قد يكون ضرورياً في بعض الحالات، ولكن هذه مسألة شديدة التعقيد وهي تحتاج إلى أقصى درجات التنبه واليقظة والمعرفة، هذا التنبه لم يكن لينقص الزعماء العرب الذين طالبوا بالاستقلال والحرية . تعبيراً عن هذه اليقظة دعا عبد الغني العريسي العرب إلى عدم الاعتماد على عدل الغرب وإنصافه والابتعاد عن استصراخه والاستنجاد به، وحث أبناء الأمة على بناء القوة التي تمكنها من تحقيق أهدافها (المفيد 219/1912) . وفي الوقت الذي طالب فيه المؤتمر العربي الأول حكومات الغرب بدعم الإصلاحيين العرب، دعا عضو المؤتمر ندرة المطران إلى احترام المصالح العربية وإلى الكف عن استخدام النصارى في بلاد المسلمين حجة تستخدمها للتوصل إلى غرضها . تلك مواقف تدل على انتباه الاصلاحيين والثوار العرب في تلك الفترة الى مطبات السياسة الدولية ومحاذير التعويل على الغرب كعنصر حاسم في تحقيق الطموحات العربية .

بيد أن معرفة الاصلاحيين والثورة العربية بالغرب وبالسياسة الدولية كانت تقتصر على العموميات وعلى ما كان ظاهراً على السطح فقط . فهؤلاء لم يكونوا على اطلاع كاف على مجريات السياسة في الدول الكبرى خاصة تلك التي تؤثر في المنطقة العربية . كان الثوار والإصلاحيون العرب يتصورون أن هذه الدول سوف تساعدهم على تأسيس دولة عربية مستقلة تضم الولايات العربية العثمانية، وعندما قامت الثورة الروسية بنشر نص معاهدة سايكس-بيكو، بدا الأمر مفاجأة كاملة لهم، ولكن لو قيض لهم أن يتابعوا دقائق السياسة الدولية والعلاقات بين الدول الكبرى لما فوجئوا باتفاق سايكس-بيكو ولاعتبروه تجديداً وامتداداً طبيعياً لاتفاقات التفاهم الودي التي تمت بين هذه الدول بدءاً من عام 1904 على اقتسام المنطقة العربية بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا .

ولو قيض للإصلاحيين والثوريين العرب آنذاك الاطلاع على معطيات السياسة في الدول الكبرى لأدركوا أن للحروب مناخاتها، وأنه في العديد من الأحيان تؤدي إلى تراجع الليبراليين والمتنورين في هذه الدول وإلى صعود المحاربين والمتشددين والصقور وأمساكهم بمفاصل السلطة وأن هذا النهج ينعكس بصورة مباشرة على السياسات الخارجية . هذا ما حدث في بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى عندما جرى تطعيم الحكومة الليبرالية بrdquo;أمبرياليين جددrdquo; من أمثال آرثور بلفور، صاحب الوعد الشهير إلى الصهيونية، ولورد كيرزون والفرد ميلنر وجان سماثس من جنوب إفريقيا، وشكل هؤلاء حكومة مصغرة اضطلعت بالدور الرئيسي في قيادة الحرب .

إلى جانب هؤلاء كان بعض الموظفين الذين لا يقلون عنهم صقورية مثل امري ومارك سايكس الذي كان طرفاً في معاهدة سايكس بيكو . وفيما كان الليبراليون في الحكومة والمتنورون فيها يطالبون باحترام تعهدات بريطانيا إلى حلفائها من العرب في مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام والهند، فإن الإمبرياليين الجدد كانوا يعتبرون هذه التعهدات مؤقتة الطابع قابلة للنقض وفقاً لمقتضيات الحرب والمصالح بعيدة المدى للدول الكبرى . كما يقول برنارد بورتر في كتابه ldquo;حصة الأسدrdquo; الذي يتناول تاريخ الإمبريالية الأوروبية بين عامي 1850 و1995 .

لم تكن لدى الإصلاحيين والثوريين العرب المعرفة الكافية بأوضاع دول الغرب التي سيطرت على المنطقة بعد انتهاء الحرب، ولعل في ذلك بعض العذر في تعاونهم مع هذه الدول بالرغم من اطلاعهم على ما يخبئه صقور السياسة الغربية للعرب عند انتهاء الحرب . إلا أن الحال في عصر الثورات والانتفاضات العربية الراهنة يختلف اختلافاً كثيراً عن الماضي، فنحن اليوم في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، ولقد أصبحت أقنية الاتصال الرسمية وغير الرسمية قادرة على الوصول إلى المعلومات وإلى تعميمها وإيصالها إلى سائر المواطنين العاديين، ولسنا في حاجة إلى الإسهاب بالحديث عن ويكيليكس وعن المنظمات الدولية التي تناصر حقوق الإنسان وتوفر المعلومات وتضع التقارير عن النوايا غير الحميدة التي تكنها بعض الحكومات ضد دول الجنوب وشعوب العالم النامي .

إضافة إلى ذلك هناك مئات الملايين من الشبان العرب المنتشرين في الدول الكبرى وبين هؤلاء كثيرون من أهل العلم والمعرفة الذين يتابعون بدقة تطورات البلاد التي يقطنونها، وهم على دراية بسياسات هذه البلاد تجاه المنطقة العربية وبينهم أيضا من يشارك بنشاط في حركات التغيير التي تجتاح المنطقة . هؤلاء يزودون ولا شك أقرانهم في الداخل بصورة دقيقة بما يعرفونه ويتعاونون معهم في توجيه حركات التغيير والإصلاح . كل ذلك يعني أنه لا عذر معرفياً للثورات والانتفاضات الجديدة إذا أخطأت في حسابات التحالفات الدولية .

إن احتمال الوقوع في الحسابات اليوم أقل منه بالأمس، ولكن مع ذلك فإن ظروف حركات التغيير في المنطقة لا تنفي بصورة قاطعة إمكانية ارتكاب أخطاء فادحة وذات أبعاد استراتيجية . إن الحكومات الأوروبية التي تضطلع اليوم بدور كبير في التحرك على الساحة العربية تنتمي في أكثريتها الساحقة إلى اليمين الأوروبي . وبعد أن كانت الأحزاب اليسارية والليبرالية والوسطية تسيطر على الحكومات الأوروبية، فإنه لم يبق في أوروبا إلا أربع أو خمس حكومات من هذا النوع . إن اليمين الأوروبي ليس معادياً بالضرورة للعرب إصلاحيين كانوا أم محافظين، إلا أن اليمين الأوروبي الحالي يردد الكثير من مقولات اليمين المتطرف المعادي للعرب ابتداء من ذم الهجرة والمهاجرين العرب، ومروراً بمساواة العرب بالإرهابيين ووصولاً إلى الدعم غير المتحفظ لrdquo;إسرائيلrdquo; وبناء العلاقات الحميمة مع الصهيونية .

تعبيراً عن هذا الواقع، كتب اندرس فوغ راسموسين، الأمين العام للحلف الأطلسي، مقالة في العدد الأخير من مجلة ldquo;فورين افيرزrdquo; عن الحلف بعد التجربة الليبية حث فيها الدول الأطلسية على زيادة إنفاقها العسكري وتعاونها الاستراتيجي والحذر من القوى البازغة . في هذه المقالة، لم يأت راسموسين بجملة واحدة عن الثورات الديمقراطية في المنطقة العربية ولا عن الفوائد التي تعود على بلاد الناتو من جراء انتصار الديمقراطية العربية . بالعكس اقترن الحديث عن ليبيا بتشديد على الأخطار والتحديات الآتية من المنطقة العربية .

رغم هذا الواقع فإن الإصلاحيين والثوريين العرب بحاجة إلى طلب الدعم من المجتمع الدولي في الشرق والغرب . المسألة الحاسمة هنا هي كيف يحصل العرب على دعم الدول الكبرى والمؤثرة، ولكن من دون أن تتكرر ماساة اقتسام المنطقة بحسب بنود الاتفاق الودي وسايكس-بيكو ووعد بلفور . هذا السؤال لا يزال معلقاً في الهواء حتى الآن .