جمال أحمد خاشقجي


مع كل انتصار لثورة عربية أخرى، ينطلق السؤال الكبير، أين الإسلاميون؟ ما دور laquo;الإخوانraquo;؟ هل سيحكمون؟ هل سيسرقون الثورة؟

بالطبع laquo;سرقةraquo; الثورة إهانة لـ laquo;الإخوانraquo;، ولكنها قيلت وستقال، على رغم أن لـ laquo;الإخوان المسلمينraquo; حقاً في كل ثورة عربية، حموها في مصر، قاتلوا وقُتلوا في ليبيا، في اليمن تخلوا عن الرئيس، وليس ذلك بالأمر اليسير لمن يعرف اليمن وتاريخ laquo;الإخوانraquo; وعلي عبدالله صالح! أما في سورية فإنهم من هرّبوا تليفونات الثريا وأجهزة laquo;التحميلraquo; التي تتصل بالإنترنت فضائياً متجاوزة شبكة الدولة المقطوعة لنقل سلاح الانتفاضة الوحيد وهو laquo;الصورة والصوتraquo;، ودفعوا ثمن ذلك تصفية وإعداماً من غير محاكمة. إذاً هم على الأقل شركاء في تلك الثورات.

خلف هذا السؤال ومعه جدل، وسوء فهم ونية، وتصفية حسابات قديمة، والأهم استدعاء حالة سابقة يفترض أنها انتهت مع انتصار الثورة، وهي ما كان بينهم وبين الأنظمة الشمولية البائدة، بتوابعها من صراعات فكرية وحزبية بينهم وبين التيارات السياسية الأخرى، وهي صراعات لم تكن دوماً نزيهة وإنما متأثرة بالصراع الأصلي بين laquo;الإخوانraquo; والأنظمة.

ما يجيب على السؤال الكبير الذي ابتدأت به مقالي هو قدرة laquo;الإخوانraquo; على الإجابة عن أسئلة ذلك الصراع الفكري بينهم وبين الليبرالية والحداثة والديموقراطية الغربية وكلها من أدوات laquo;الربيع العربيraquo;. ذلك السؤال الذي أطلقه الشيخ على عبدالرازق في كتابه الشهير laquo;الإسلام وأصول الحكمraquo; أوائل القرن الماضي والذي حاول أن laquo;يفصلraquo; به بين الإسلام كدين والسياسة. وجدد laquo;الأزهرraquo; وشيخه الطموح أحمد الطيب ذلك السؤال في وثيقة مستقبل مصر التي أُعلنت نهاية حزيران (يونيو) الماضي والتي صدرت باسم laquo;الأزهرraquo;، وهي أقوى موقف معاصر يجسر أو يصالح بين الإسلام والحداثة السياسية. بالطبع رحبت القوى والأحزاب الليبرالية بالوثيقة، وكذلك laquo;الإخوانraquo; في موقف متقدم لهم، إذ لم يعودوا يستطيعون تأجيل الإجابة عن السؤال وتركه ساحةً للجدل بين المفكرين وعلماء الشرع والمثقفين، فمع اقترابهم من السلطة ndash; أو لنقل الشراكة فيها ndash; بات لزاماً عليهم اتخاذ موقف، خصوصاً أن قضية الدولة الدينية أو المدنية أصبحت عاملاً انتخابياً شعبياً يقرر اختيار المصري البسيط وهو يضع صوته في صندوق الانتخاب، بعد أن كانت حواراً ثرياً في الندوات والصحف. ستُختصر هذه المسألة الكبرى إلى جملة laquo;أنت عايزها دينية أم مدنية.. حدد موقفكraquo;، وعلى المرشح أن يرد بكلمة واحدة فقط.

هناك ثلاثة تحولات يحتاج laquo;الإخوانraquo; أن يتمّوها كي يصلوا الى السلطة وينجحوا بعدها: الأول مدى براغماتيتهم وقدرتهم على التوسع في الاجتهاد، ومرة أخرى الإجابة عن الأسئلة القديمة حول الإسلام والحداثة السياسية، من غير أن يحدثوا laquo;فتنةraquo; داخل الجماعة. إنهم ليسوا بالحزب السياسي العادي الذي ينضم إليه أو ينفضّ عنه العضو عند أقل خلاف، وما خبر الأحزاب الليبرالية المصرية عنا ببعيد، وقياداتها تختصم وتنشق وتتبادل الاتهامات بعد اللكمات في مقر الحزب. السمع والطاعة في المنشط والمكره من أساسيات الانضمام إلى الجماعة، ويحتاج العضو سنوات من المتابعة من المكلَّف به حتى يصل إلى درجة العضوية الكاملة.

بقدر ما في ذلك من مصدر قوة، فإن التأسيس القوي والعقائدي الذي يمر به العضو يجعل التحولات الكبرى صعبة عليه، كما أن السنوات الماضية شهدت ما سمي laquo;تسلف الإخوانraquo; عندما تبنى بعض قيادات الجماعة مواقف متشددة تجاه الأقباط والمرأة على سبيل المثال، ولعل ذلك أحد أسباب ترحيب laquo;الإخوانraquo; بوثيقة laquo;الأزهرraquo; بل سعيهم الحثيث لتعزيز موقع laquo;الأزهرraquo; واستقلاليته كمرجعية إسلامية في مصر وخارجها، طالما أنه متوافق مع تحولاتهم الجديدة.

التحول الثاني هو التخلي تماماً عن ثقافة laquo;السريةraquo; التي اضطروا إليها للبقاء في مواجهة ضغوط هائلة أمنية وفكرية وثقافية، والانتقال إلى laquo;العلنيةraquo; والشفافية. هذه laquo;السريةraquo; تحولت بعد نصف قرن من المطاردة إلى منهج حياة، وبقاؤها معهم سيضعف الثقة بينهم وبين الآخرين، بل حتى داخل صف الجماعة. بالطبع ستبقى تلك الخيوط بين مكتب الإرشاد وشتى مؤسسات laquo;الإخوانraquo; السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي ستنتعش في زمن الحرية.

التحول الأخير هو الاستفادة من أممية laquo;الإخوانraquo; من دون هيمنة القاهرة، وهذا يهم فروعهم خارج مصر، فـ laquo;الإخوان المسلمونraquo; هم الحركة الأممية الوحيدة الباقية في العالم بعد سقوط الشيوعية، فلن يعدم الأخ المسلم القطري أو المصري عنواناً يطرقه لو ذهب تاجراً أو طالباً في بلد آخر. هذه الميزة استفاد منها laquo;الإخوانraquo; في زمن العسرة فكيف يستفيدون منها اليوم؟ لقد أدت تدخلات مكتب الإرشاد في القاهرة أو تفضيله لهذا على ذاك إلى إشكالات في صف بعض فروع الجماعة في سنوات سابقة. لم تكن على المحك يومها مسائل كبرى، وإنما مجرد اختلاف حول مدرسة أو بنك. اليوم ستواجه laquo;الإخوانraquo; قضايا حكم كبرى تعنى بها دول وشعوب ولا تحتمل اجتهاداً خاطئاً أو قراراً مستعجلاً.

في هذه المسائل الثلاث مزايا يتمتع بها laquo;الإخوانraquo; من دون غيرهم من القوى السياسية بقدر ما فيها من تحديات، وتصب كلها في إعادة لصياغة السؤال الذي بدأت به المقال: هل يرغب laquo;الإخوانraquo; في التحول من حالة المعارضة المريحة التي تعفي صاحبها من المسؤولية إلى الحكم أو المشاركة فيه في دولة يقوم نظامها على تداول السلطة ومحاسبة المسؤولين وقرار الناخب؟ هل هم جاهزون لذلك وهم يحملون معهم مسؤولية الحكم باسم الإسلام، أم أن الأفضل لهم وللإسلام أن يبقوا بعيدين عن السلطة ولكن قريبين منها بالقدر الذي يجعلهم مؤثرين ومرشدين لها؟ هذا هو السؤال.