رياض نعسان أغا

تشكل الثورات العربية الراهنة فاصلاً تاريخيّاً في مسيرة الأمة العربية، إنها نهاية حقبة امتدت قروناً طويلة في حالة فصام بين الشعب والسلطة، وبرغم كونها غير مسبوقة في تاريخنا فإن توقع ما ستفضي إليه وما ستحقق من نتائج عملية يطرح الكثير من الأسئلة والمخاطر والتوقعات التي لابد من أن نجد مقاربات لها في التاريخ.

وفي استلهام المقارنات الممكنة نجد أن العرب خاضوا قبل نحو مئة عام حالة فريدة من الوعي الوطني والقومي والديني بما عرف بعصر النهضة بعد قرون من الإذعان للحكم العثماني، وحين انطلقت شرارة quot;الثورة العربية الكبرىquot; بقيادة الشريف حسين كانت آمال الأمة مسرفة في التفاؤل، فقد ظن العرب أن ثورتهم ستنقلهم من عصر الإذعان والتبعية إلى عصر الاستقلال والحرية، ولكن آمال العرب سرعان ما تبددت حين اكتشف الثائرون أن من كانوا يدعمونهم من الأوروبيين وبخاصة فرنسا وبريطانيا، تقاسموا ما سموه تركة الرجل المريض، وقسموا المنطقة بسكين quot;سايكس- بيكوquot;، ومنحوا أرض فلسطين للصهاينة. وسرعان ما زحفت جيوش الغرب لتحتل العراق وبلاد الشام، وكانت من قبل قد احتلت مصر وبلدان المغرب العربي. وكان على العرب أن يبدؤوا نضالهم لتحرير بلادهم وانتزاع استقلالها، فلما تم لهم ذلك اكتشفوا أن الاستعمار الذي أخرجوه من الباب سرعان ما تسلل من النوافذ.

وحين جاءت الثورات الانقلابية التي قادها العسكريون في أوائل الخمسينيات ثم تلاحقت في الستينيات هتفت الجماهير العربية لقادتها الذين أعلنوا شعارات براقة، ولكن الجماهير سرعان ما شعرت بالخيبة حين رأت هؤلاء القادة يبنون أمجاداً شخصية ويخفقون في تحقيق الأهداف التي أعلنوها، وقد تمسك بعضهم بالحكم عقوداً، والأمة تنزف وتشعر بأنها باتت في مؤخرة ركب الأمم، مما جعل جيل الشباب الذي كتم غضبه الموروث يتفجر في الثورة الراهنة.

والخطر الذي يهدد الثورة اليوم هو ذاته الذي هدد الثورة العربية الكبرى وما تلاها من ثورات انقلابية في منتصف القرن العشرين، إنه أطماع بعض الغرب المتربص بالعرب والمسلمين منذ حملات الفرنجة إلى اليوم، ولن ينسى العرب زلات لسان قادة غربيين استلهموا الحروب الصليبية، يوم وقعت جريمة 11 سبتمبر قبل عشر سنين.

ومن حق العرب أن ينتابهم شعور بالشك والريبة مما يخبئ الغرب لهم من مشاعر الكراهية حتى لو بدا مشجعاً لثوراتهم وداعماً لها، وهذا ما سيجعلهم حذرين من أية مبادرة غربية حتى ولو كان عنوانها وضاء يحمل بريق رسائل quot;مكماهونquot; إلى الشريف حسين، أو دعم السفير الأميركي في القاهرة جيفرسون كافري لثورة يوليو المصرية عام 1952، وسيكون من الغفلة أن ينسى العرب تجاربهم المريرة، فمن لا يتعلم من التاريخ لن يُجيد رؤية المستقبل. ولست أدعو إلى وقف التواصل مع الغرب ولا أضع الغرب في سلة واحدة، فهناك أصدقاء كثر لنا في أوروبا وأميركا يحملون مشاعر طيبة نحو العرب، ويريدون إنهاء الصراع التاريخي بين العرب والغرب، وقد رأينا تعاطفهم معنا في المحن التي مررنا بها وآخرها منذ بدأت الحرب على غزة واستمرت بحصارها، ولكن هؤلاء لا يملكون القرار الأوروبي أو الأميركي.

ولكون الشباب القادمين إلى الحكم في بلاد الثورات لا يغفلون عن هذا كله، فهم مطالبون بأن يتأملوا تجارب كل الشعوب وبخاصة ثورات شعوب الاتحاد السوفييتي التي سرعان ما التهمت الولايات المتحدة ثمارها، ولم ينجُ من كوارثها سوى ألمانيا الشرقية التي التحمت بألمانيا الأم، وأما الدول الأخرى فما تزال تعيش صراعات واضطرابات وقد وجدت نفسها غارقة في الحضن الأميركي.

لقد فوجئ الغرب كله بانفجار الثورات العربية وأصابته الدهشة والذهول، وقد تابعنا تردده في اتخاذ مواقفه، وهو بالطبع يبحث عن مصالحه، وقد عوض تأخره في دعم ثورة تونس بإسراع في دعم ثورة ليبيا، وحاول أن يكفر عن تردده بتدخل عسكري لن تنتهي تداعياته قريباً، والخطر الراهن أن يجد الغرب في البيئة التي ستوفرها حالات الفوضى المتوقعة بعد الثورات فرصاً ذهبية لضخ الحياة في مشروعه المخفق quot;الشرق الأوسط الكبيرquot; مستفيداً من تغيرات ضخمة في الرؤية العربية الجديدة لكل موروثات الماضي، ومن الانفعالات التي أوجدتها ظروف الثورات، ومنها على سبيل المثال الموقف من المقاومة، والمشاعر المتأرجحة نحو المشروع الإيراني والمشروع التركي، وها نحن نرى تقلبات يومية في الأفكار تصنعها مجريات الأحداث، ومع أنها غير استراتيجية لكنها تفتح نوافذ للتسلل نحو الثوابت وقد بدت قادرة على هزها من الصفعة الأولى في ظرف استثنائي.

وهذا الخطر المحتمل يدعوني لتذكير الشباب في الوطن العربي بضرورة quot;إعلان ثوابتquot; تكون موضع إجماع في الأغلبية، تحدد ما لا يمكن لأحد أن يتنازل عنه، وأول هذه الثوابت هو الحفاظ على عروبة الأمة وإسلامها وعلى كون القضية الفلسطينية قضية عربية مركزية وكون المقاومة حقاً مشروعاً لا يتناقض مع جهود السلام الدولية بل إن حضور المقاومة هو الذي يجعل هذه الجهود جدية وعادلة.

وإذا كانت شعارات الثورات قد حددت مطالبها بالكرامة والحرية وبناء الدول المدنية وتداول السلطة عبر الانتخاب واتباع الوسائل الديمقراطية في الحكم فإن من الثوابت التي ينبغي الحفاظ عليها التأكيد على انتماء كل هذه الدول إلى الأمة العربية الواحدة، وإن كانت جامعة الدول العربية قد فقدت ثقة الشعب العربي لكونها تعبر عن نظام عربي آيل للسقوط، فإن على الثورات أن تبتكر نظاماً جديداً يمكن أن تتوافق عليه عبر الدعوة إلى quot;مؤتمر للثورات العربيةquot; بحيث يرسم الجيل الثائر مستقبل الأمة ويصوغ رؤية لمستقبلها ويعلن فيه ثوابتها، ويجعل من رابطته جامعة للشعوب العربية وليس للأنظمة السياسية فحسب.

وقد يبدو هذا المقترح مستعجلاً على الثورات التي ما تزال قيد البناء في تونس ومصر وليبيا، ولكن هذه المرحلة هي الأخطر، لأنها مرحلة احتمال ظهور ثورات مضادة، أو تسلل يختطف ما تم إنجازه، ولقاء الشباب العرب في مؤتمر يعلن مبادئ جوهرية يتفق عليها شباب الأمة، ويرسم خريطة طريق للمستقبل يضمن للشعوب العربية ألا تختطف ثوراتها، ولنا في التاريخ عبرة.