خليل علي حيدر

من كان مثلنا من جيل أربعينيات القرن العشرين، فقد عاش قدراً فائضاً من الأحداث الجسام والثورات والحروب على الصعيدين العربي والدولي. فقد عايش هذا الجيل مرحلة تاريخية قد لا تتكرر قريباً، وظهر في زمان تزعزعت فيه الثوابت، وتغير وجه الطب والصناعة والمواصلات والاتصالات والتوازن الدولي والقيم السياسية.. وكل شيء تقريباً.

عايش هذا الجيل ظهور إسرائيل وحرب السويس وثورة 1952 في مصر وانقلابات سوريا والعراق، وحرب الجزائر وهزيمة 1967 وصعود الناصرية ثم أفولها وصعود القذافي وصدام ثم مقتلهما شنقاً وquot;تصفية ميدانيةquot;، وحرب العراق مع إيران ثم احتلال نظام صدام للكويت، والكثير من الوقائع الجسيمة المماثلة في العالم العربي. وعاصر هذا الجيل الثورات والتحولات في آسيا وأفريقيا، والحرب الباردة والانقسام الصيني- السوفييتي والحرب الفيتنامية والثورة الإيرانية وصعود quot;الإسلام السياسيquot;، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وتراجع الانقسام العقائدي في أوروبا وظهور نظام القطب الدولي الواحد، ثم بروز الصين الجديدة ومعها الهند وأوروبا الموحدة. وكان آخر ما يفكر فيه الواحد منا، بعد كل هذه الأحداث التاريخية، أن يعايش فوقها عام 2011 وثوراته وانتفاضاته وتحولاته، سمها ماشئت، واختر لها ما تريد من أسماء الفصول!

لم نكن نتصور ونحن في مثل هذه الأيام قبل عام أننا على أعتاب سنة تاريخية يعز الزمان بمثلها. كنا وفداً كويتياً من جمعية الصحفيين، متجهاً إلى سوريا ولبنان ومصر، لتوجيه الشكر إلى قيادة وشعب هذه الدول في الذكرى العشرين لتحرير الكويت عام 1991. فقد قادت هذه الدول إلى جانب التحالف الدولي ودول مجلس التعاون الجهد العسكري التاريخي الذي توجه بتحرير البلاد آنذاك.

كانت دمشق هادئة جداً، ربما الهدوء الذي يسبق العاصفة كما يقال، ولم أكن قد رأيت نهر بردى وسط دمشق يتدفق بهذه الكمية من الماء الصافي الرقراق. وقابلنا هناك من قابلنا، ثم اتجهنا براً إلى لبنان، لنشرإلى قيادتها التي عاصرت أحداث احتلال الكويت عام 1990، وكات لها مواقف تاريخية متميزة. كانت تونس بالطبع تموج بالأحداث، ومصير مبارك، الذي كنا قد قررنا زيارته وتوجيه الشكر إليه تقديراً لموقفه الشخصي والموقف المصري عموماً، بين يدي الأقدار!

وسرعان ما حسمت جماهير ميدان التحرير الأمر، في quot;ثورة 25 ينايرquot; التاريخية، ونحن في بيروت بين مصدق ومكذب، ومدرك وذاهل، أن ما نراه أمامنا على شاشة التلفاز هم المصريون الذين كتبت المطولات في quot;خضوعهمquot; وquot;خنوعهمquot;واستسلامهم للحاكم والغالب، منذ أن كتب الوالي بعد دخول الجيوش العربية فيها، بأن الأمر فيها quot;لمن غلبquot;! ، قد انقلبت سيماهم وسماتهم رجالاً ونساء، على نحو غير معهود منذ قرون طويلة!

لا أحد منا يعرف بالطبع مسار ومصير تحولات تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، لا أحد يعرف كذلك متى تهدأ الأمور في العالم العربي، الثائر منه والهادئ والحائر، ولكن هذه الانتفاضات والثورات والصدامات، على امتداد كل هذه الدول والمجتمعات، أنهت بلا ريب مرحلة وفتحت الباب لمرحلة، مهما كان شكل الآتي من الأيام ولون الزمن القادم.

quot;لا مشاحة في أن القهر السلطوي من ناحية والتمايز الطبقي الصارخ من ناحية ثانية، قد أفرز وكرّس، على مدى التاريخ الاجتماعي المصري، ميلاً عارماً لدى غالبية المصريين نحو القدرية والتواكلية السلبيةquot;.

قارن هذه السلبية التي يشير إليها بعض الكتاب، بإرادة تلك الجموع في ميدان التحرير وهي تهدر كل يوم وكل ساعة: quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;!

ما الذي استجد في حياة الشعوب العربية بعد عام 2011 وثوراته؟ هناك المتشائمون الذين يعتبرون كل هذه quot;الثوراتquot; مجرد قطع لرؤوس الأنظمة، وأن الجذور الحية لها كفيلة بإنبات رؤوس جديدة، كما جرى من قبل. ومن هؤلاء من يتأمل الواقع العربي في كل هذه المجتمعات، فيرى محقاً الصعاب التي تضرب جذورها في التخلف الاقتصادي والتعصب الديني والسذاجة السياسية وتضارب الآراء وكثرة المطالب. ويقابل هؤلاء المشككين المترددين من جانب آخر، المتحمسون لنجاح التغيير والمؤيديون للتحولات، ما سبق منها وما سيلحق!

أما واقع العالم العربي ونبض مجتمعاته، فيجمع بالطبع بين هذا وذاك، وبين التقدم والتراجع، وبين الثابت والمتحول. لقد دفعت هذه الأحداث الإسلاميين من quot;إخوانquot; ومن سلف وغيرهم إلى المقدمة، وراحت الأحزاب quot;الليبراليةquot; تراجع موقفها وتطالب أحياناً بنظام شبه رئاسي بدلاً من البرلماني لعلها تلجم اندفاع الإسلاميين، فيما أصاب شباب الثورات الذهول، من مآل أحداث كانوا في طليعة من قام بها ورواها بالتضحية والدماء، ليصادرها غيرهم quot;بالطرق الشرعيةquot;.. عبر صناديق الاقتراع!

quot;هل أنت من الأغلبية الصامتة التي لم تنتخب السادات، ولا بشار، ولا مبارك ولا نجاد، وكان هناك دائماً من ينتخبهم زوراً، بالنيابة عنكquot;؟ هكذا تساءل كاتب صحفي معروف في quot;الشرق الأوسطquot;، يوم13 ديسمبر المنصرم، وهو quot;غسان الإمامquot;، وأضاف: quot;أم هل أنت من أهل الكهف، من quot;الأغلبية النائمةquot;، التي صحت فجأة؟ كان العرب أمة ناطقة في زمن النضال ضد الاستعمار، صاروا أمة صامتة منذ الاستقلال في اللحظات النادرة لممارسة ديمقراطية الاقتراع بنزاهة، صوتوا بعشوائية فوضوية مذهلة. كانت الأغلبية السورية الصامتة تصوِّت، في قائمة واحدة، للشيوعي خالد بكداش وللإخواني عصام العطارquot;. حتى في الكويت، ومنذ الاستقلال، لا يجد الناخب الكويتي خطأ أو غضاضة في أن ينتخب هذا المرشح quot;اليساريquot; وذاك الشديد في quot;يمينيتهquot;. وربما هكذا هو الأمر في دول عربية عديدة أخرى. quot;أربكتنا الساحة المصريةquot;! هكذا جأر الإعلامي الكبير quot;عبدالرحمن الراشدquot; بالشكوى على صفحات الجرائد! quot;لم نعد نعرف الإسلاميين من الليبرالين، ولم نعد نفهم السلفية أو الإخوانية، كما كنا نظن أننا نعرفها. ويبدو أننا سننشغل لزمن نتجادل في المفاهيم والمسميات الجديدة، بعد العام الأول من الثورات العربية، فهذا جزء من الحراك الإيجابيquot;.

ومن حسنات ربيع 2011، أنه وسّع آفاقنا السياسية وزاد من جرعة التسامح في فكرنا. الكاتب quot;مشاري الذايديquot; لخص الحكمة التي خرج بها الكثيرون من نتائج الانتخابات فكتب يقول: quot;شخصياً، أعتقد جازماً بحق كل شخص بأن يؤمن بما يشاء من الأفكار السياسية، بشرط ألا يؤذي طرفاً آخر أو يعتدي عليه مادياًquot;.

كيف سيتعامل الإسلاميون مع أوروبا والولايات المتحدة، وكيف سيعيدون quot;تقديم مصر: إلى دول مجلس التعاون الخليجي؟ وكيف ستكون اختياراتهم بين تركيا وإيران والسعودية؟ quot;الراشدquot; نفسه، كتب مستغرباً عن قائد مسيرة تونس يقول: quot;زعيمها راشد الغنوشي، بعد فوز حزبه، طار فوراً إلى واشنطن، لا إلى مكة، بل زار أقرب المعاهد الاستراتيجية الأميركية إلى إسرائيل، ونثر على الحاضرين وعوداً من قوله إن دستور تونس لن ينتقد إسرائيل، وأنه يؤيد حق المسلم في أن يغير دينه إلى أي عقيدة يريدها، وأنه يتفاوض مع العلمانيين لإشراكهم في حكومته. وعندما سألوه عن فلسطين وإسرائيل أكد لهم أن الشأن الفلسطيني آخر اهتماماته، فلديه مليون عاطل في تونس يحتاجون إلى أن يبحث لهم عن عملquot;. طبعاً، كما يواصل الراشد كلامه، quot;لم يتجرأ زين العابدين، الرئيس التونسي السابق، على قول ربع مثل هذا الكلام في تاريخ رئاسته، ولم يعترض أحد اليوم على كلام الغنوشيquot;.

لقد اختتم العالم العربي القرن العشرين بعد عشرة أعوام من بدء القرن الجديد! تماماً كما أنهت أوروبا القرن التاسع عشر عام 1914 و1918، مع نهاية الحرب العالمية الأولية. فقد بدأت بعد نهاية تلك الحرب تحولات سياسية واجتماعية واسعة في أوروبا، وسنرى إن كانت سنة 2011 لاتقل عن تلك خطراً!