السيد ولد اباه

كانت سنة 2011 المنتهية سنة quot;الربيع العربيquot; دون جدل، سقطت فيها أنظمة عربية أربعة، في الوقت الذي لا تزال الثورة السورية في أوج عنفوانها بكل ما لها من أثر وتأثير على أوضاع المنطقة برمتها. ومهما كان الموقف من الأحداث الحاسمة التي شهدها العالم العربي، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن منطقتنا دخلت في أفق تاريخي جديد له منطقه ورهاناته وأبعاده الدلالية والرمزية الكثيفة. ومع أن أغلب التحليلات والتأويلات التي تناولت quot;الربيع العربيquot; ركزت على جوانبه السياسية بالنظر إليه بصفته حركة انتقال ديمقراطي بإيقاع سريع عنيف، إلا أن الثورات العربية الجديدة تقترن فيها كما يبين الباحث الفرنسي زكي العائدي-ديناميكيات ثلاث:- ديناميكية ليبرالية تتجسد في المطالب الديمقراطية.

- ديناميكية اجتماعية تتركز في مطالب العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والغبن والتفاوت.


- ديناميكية هوية تتمثل في مطالب الكرامة والحفاظ على حقوق الإنسان الفردية والجماعية. ولذا من الخلف توهم أن حركية الثورات العربية قابلة للامتصاص في حل المعضلة السياسية الآنية من خلال الانتخابات الحرة والشفافة، وإنْ كان الانفتاح السياسي من الشروط الأولية والضرورية للتعامل السليم مع أزمات الزمن العربي الراهن. ما نلمسه اليوم في مختلف الساحات العربية هو صدام الثورة والديمقراطية، بمعنى تصادم منطق الحل السياسي الذي يقتضي البناء المؤسسي الثابت والمستقر ومنطق التمرد والثوران الذي يرمز للقطيعة والانفصال وتحريك السواكن وزعزعة الثوابت.
يعيد زمن الثورة فتح الأسئلة الجوهرية الكبرى التي تتعلق بالوجود الإنساني، بما فيها مسألة الشرعية السياسية ومفارقة المرور الإشكالي من منزلة الحرية الذاتية غير المقيدة والمساواة الأصلية إلى منزلة السلطة التراتبية والتفاوت الاجتماعي. والمعروف أن هذه الإشكاليات تعتبرها المجتمعات المنظمة من المسلمات، وتتعامل معها كلحظات أصلية متجاوزة، في حين تغدو هي الأسئلة الأساسية في حقبة الثورات الجذرية.

وعندما اختارت البلدان العربية الثلاثة التي نجحت فيها الثورات الشعبية (تونس ومصر وليبيا) مسار التأسيس الانتقالي وجدت نفسها في إحدى اللحظات الفارقة التي يعاد فيها بناء النظام الاجتماعي من الصفر، على الرغم من الصياغات المؤسسية المؤقتة التي أريد من خلالها تأطير واحتضان السيلان الثوري.

من الطبيعي أن يحاول الجيش في مصر توجيه مسار التحول السياسي المفتوح على المجهول من خلال السياج الدستوري المسبق، فتكون النتيجة هيجان ثوار quot;ميدان التحريرquot; المتشبثين بالأفق التاريخي المفتوح.

في ليبيا واليمن (وفي سوريا أيضا)، انهار البناء السياسي برمته، وظهر عجز المؤسسات الإدماجية عن استيعاب حركية التحول. وليس ما يظهر من استفاقة للمعطيات القبلية والطائفية دليلًا على النكوص لوضعيات اجتماعية ما قبل حديثة، وإنما هو تعبير عن العودة الضرورية لإشكالات التأسيس السياسي والمؤسسي في أبعاده الجوهرية وبداياته الأولى.

في تونس، استطاعت الطبقة السياسية التوافق حول قواعد الانتقال الديمقراطي، فتجاوزت أزمات الديناميكية الليبرالية، دون أن ينحسر الزخم الثوري الذي يتغذى من الأزمات الاجتماعية المستعصية. والمشكل الكبير المطروح على القوى السياسية برمتها هو كيف يمكن احتواء المطالب الثورية بكامل كثافتها في الملف السياسي الذي لا غبار على حسن إدارته وإحكام تسييره؟

ليس الإشكال هنا متعلقاً بطبيعة الخيار الأيديولوجي والسياسي المنتصر في صناديق الاقتراع. فقد يكون في التصويت للون الإسلامي بحثاً عن منطق التغيير الجذري خارج موازين ورهانات الواقع السياسي والاجتماعي، بيد أن التيار الإسلامي نفسه سيجد نفسه بالتأكيد في مواجهة المد الثوري الذي لا يصدر عن منطق الحسابات السياسية ولا يتقيد بسقف الواقع الممكن.

يميز الفيلسوف الفرنسي المعروف quot;ألان باديوquot; في كتابه الصادر هذه الأيام بعنوان

quot;يقظة التاريخquot; بين ثلاثة أصناف من الانتفاضة هي:quot;الانتفاضة المباشرةquot; وquot;الانتفاضة الكامنةquot;وquot;الانتفاضة التاريخيةquot;. الانتفاضة المباشرة محدودة وجزئية تكون ردة فعل على واقعة ظلم وتجاوز، والانتفاضة الكامنة تكون تعبيراً عن ردة فعل صامتة خرجت للعلن إثر حدث عارض. أما الانتفاضة التاريخية التي يرى quot;باديوquot; أن الثورات العربية تندرج فيها فتحدث عندما يتحول الثوران المباشر إلى وضعية ما قبل سياسية تفتح أفقاً جديداً للتاريخ.

نجحت الثورات التاريخية العربية -كما يرى باديو- لما توافرت شروط ثلاثة:الفضاء التحشيدي المستقر(ميدان التحرير في القاهرة او ميدان القصبة في تونس)، والخروج من ضوابط وأطر التمثيل السياسي والاجتماعي، بحيث تتداخل الطبقات والاتجاهات والتيارات، والتوصل لشعارات تعبوية جامعة.

والمفارقة التي ينبه إليها quot;باديوquot; هي أن الفاعلية التاريخية لا تتحقق إلا بالخروج من مبدأ الاغلبية الذي هو معيار الديمقراطية التمثيلية: فالذين أسقطوا بن علي ومبارك هم عشرات ألوف هائجة وليس الأكثرية التي تحسم عادة المنافسات الانتخابية.

ومن هنا تبرز لنا معضلة الوضع العربي الراهن الذي لا يبدو أنه في طور الاستقرار السياسي والاجتماعي. فليس بإمكان الهياكل السياسية الشرعية أن تؤمن في المدى المنظور حالة الأمن الاجتماعي والسلام الأهلي.

ستنعكس هذه الإشكالات ضرورة في النقاشات الدستورية المفتوحة في الاتجاهات كلها، وقد تفضي إلى ثورات أخرى لاتستهدف هذه المرة الأنظمة الاستبدادية القمعية، وإنما لها الحكومات الديمقراطية التي ليس من القوة إلا سلاح الشرعية.

ماذا يحدث لو أسقطت الأقلية الثائرة حكومات الأكثرية الناخبة؟

حدث هذا الاحتمال في مناطق عديدة من العالم في لحظات سابقة، واتخذ أشكالاً متعددة من أخطرها عودة الاستبداد باسم الشرعية الثورية (احتجاجاً وردة فعل على المؤسسات الديمقراطية الفاسدة أو المشلولة وحالة الانسداد السياسي).

ليست إذن لحظة الثورة هي لحظة الديمقراطية، وليس من الحتمي أن يقود الانقلاب الجذري الى الحالة التعددية المنظمة والمستقرة.

ما حدث في العالم العربي هو انكسار الأنظمة الاستبدادية السلطوية وتجدد الفاعلية التاريخية للإنسان العربي، مما يمهد الأرضية الملائمة للمنعرج الليبرالي، بيد أنه من السذاجة الرهان على تجاوز الاستحقاقات الفكرية والمجتمعية لهذا المنعرج بمجرد الآليات الانتخابية والنظم المؤسسية. فالطريق إلى الديمقراطية ما زال في الخطوات الأولى.

اقرأ المزيد : وجهات نظر | صدام الثورة والديمقراطية | Al Ittihad Newspaper - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=63377#ixzz1iEzLtyHc