عبدالله خليفة الشايجي

لا شك أن بداية كل عام هي مناسبة لإجراء جردة حساب واستحضار شريط سريع لمسار أحداث عام مضى، مع استشراف آمال وتمنيات عام جديد. وقد سطرت مع بداية عام 2011 الذي رحل، على هذه الصفحات، مقالًا بعنوان quot;حال العرب بين عامينquot; معلقاً على أحداث عام 2010. وعوْداً مع الذاكرة فقد كانت بداية عام 2011 صادمة لنا كعرب حيث شهدنا تقسيم وتفتيت أكبر بلد عربي مساحة، وهو السودان، ليصبح سودانين -السودان الذي نعرفه وجمهورية جنوب السودان التي اقتطعت ثلث مساحته بمباركة دولية وإسرائيلية لتصبح الدولة 193 في الأمم المتحدة، وقد نالت هذه العضوية خلال أيام من استقلالها بينما تبقى فلسطين تتلوى منذ 63 عاماً دون أن تنال هذا الحق، بل يهدد أوباما باستخدام quot;الفيتوquot; لحرمانها من العضوية في الأمم المتحدة!

وقد علقت مع مطلع عام 2011 في هذه المساحة قائلاً عن العام الذي سبقه أي 2010: quot;بقيت للأسف أحوالنا عربيّاً لا تدعو للتفاؤل مع الانتكاسات والتشظي والتفتيت لواقعنا وأوضاعنا العربية، لترسم مشهداً مؤلماً ومحبطاً. وما ميز عام (2010) أنه كان فائض الأحداث والكوارث والتفتيت والتشرذم والاحتقان. ويُخشى من تفاقمها في العام الجديد (2011) في أكثر من دولة ومجتمع. والملفت في العام الماضي انسداد الأفق، فعلى رغم الحراك وكثرة الانتخابات العربية، فإنها لم تغير شيئاً بل ألغت في بعضها المعارضة كليّاً. وبقي الطرف العربي، الأكثر تأثراً والحلقة الأضعف من المحيط إلى الخليج. وبقي اللاعبون الآخرون، أي الأطراف غير العربية، من إسرائيل المتعنتة، وإيران المتحدية، وتركيا الصاعدة والطامحة، بمشاريعهم وبرامجهم وأجنداتهم هم من يتحكم في مفاصل الأوضاع ويتدخل ويؤثر في شؤوننا وحتى على حسابنا وحساب مصالحنا وأمننا واستقرارنا... وقد أصبح أقصى آمالنا ألا تتراجع أوضاعنا وحالنا أكثر في عام 2011، وخاصة أن هناك الكثير من الغيوم والسحب الداكنة فوق سمائنا العربية تهدد بالمزيد من التشرذم والتفتيت لأكثر من دولة مثل الصومال والسودان واليمن، وما يجري أيضاً في العراق ومصر ولبنان يدعو للقلق. وهناك مخاوف من سيناريوهات لأزمات وحروب بين إسرائيل وquot;حماسquot;، وبين إسرائيل وquot;حزب اللهquot;، وبين الغرب وإيران. وهناك مخاوف التفجير والتشظي الداخلي والحروب الأهلية المستعرة في أكثر من دولة سواء بسبب الخلافات المذهبية والعرقية والطائفية، أو بسبب الأوضاع الاجتماعية والمالية الخانقة (ما يجري في الجزائر وتونس) في شمال أفريقيا والمشرقquot;. نعم هكذا كتبت قبل عام.


ولا يشي ذلك التحليل، قبل عام، بحجم وسيل التغيير التاريخي الذي ضرب كالزلزال وأطاح برؤوس أنظمة راسخة مسيطرة، وحرك الجمود وقضى على حالة الاستثناء العربي في مجال النقص والعجز في الحريات والديمقراطية! وكم كان عام 2011 قاسيّاً ومدمراً للطغاة من عرب وغيرهم، فقد بدأ بسقوط بن علي في تونس، وانتهى برحيل quot;كيم جونج إيلquot; في كوريا الشمالية.
ثم مَن كان يتوقع أن يصبح quot;الربيع العربيquot; هو المصطلح الأكثر تداولاً واستخداماً؟ ومن كان يتخيل أن تختار مجلة quot;التايمquot; الأميركية الشهيرة quot;المتظاهرquot; باعتباره شخصية العام، استدعاء لأجواء هذا الربيع، الذي صنعه ملايين العرب المرددين quot;الشعب يريد إسقاط الرئيسquot; وquot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;؟ ومن كان يتوقع أن يتحول العرب من متأثرين يلهمهم الآخرون، إلى مؤثرين وملهمين للغير بحراكهم الثوري ليلهموا الأميركيين حين قلدتهم حركة quot;احتلوا وول ستريتquot; الأميركية اليسارية الناشطة ضد نفوذ وسطوة المال وتدخله في السياسة، وكذلك ألهم العرب الروس في احتجاجات ومظاهرات ينظمونها الآن هي الأكبر في تاريخهم ضد تسلط بوتين، وإفساد السياسة، وتزوير الانتخابات! كل هذا وذاك حدث دفعة واحدة في عام المفاجآت والتغييرات، ودون سابق مقدمات!

والحال أن أهم ما في عام 2011 أنه حرك الجمود وأيقظ الشعوب المقهورة والمكسورة والمهمشة، التي فقدت الكرامة والأمل والمستقبل، لتكسر أخيراً حاجز الرهبة والخوف والاستكانة. ولم يكن أحد طبعاً يتوقع ولو بجزء يسير من الاحتمال ما حدث في عام 2011! وسقطت فجأة جميع نظريات علم السياسة والاجتماع السياسي، ومن ورائها رهان بعض الحكام الطغاة على قوتهم وقدرة نظمهم على البقاء.

من كان يتوقع أن شخصاً هو محمد البوعزيزي، بائع الخضار المتجول الذي لا يعرفه حتى سكان مدينته quot;سيدي بوزيدquot;، يحرق نفسه محتجاً على قسوة المعاملة وشظف العيش والإهانة المتكررة وفقدان الأمل، ليفجر ثورة الياسمين، وتسمى ساحة في باريس باسمه؟ وتلك الثورة التي فجرها البوعزيزي لم تقتلع فقط بن علي صاحب القبضة الحديدية الذي فر لاجئاً في ملجأ اختياري بعد شهر من انتفاضة شعبه، بل قادت أيضاً إلى تسونامي حراك ثوري عربي شمل معظم دول شمال أفريقيا ودولاً عربية أخرى. ومن كان يتخيل أن مبارك سيتنحى بتلك الطريقة بعد حكم دام ثلاثة عقود لأكبر دولة عربية؟ ومن كان يتخيل أن العقيد النرجسي القذافي، عميد الحكام العرب، الذي كان ملء السمع والبصر، سيُهان ويُسحل ويُقتل بطريقة غامضة، وينتهي مع جماهيريته الليبية إلى غير رجعة؟ ومن كان يظن أن علي صالح في اليمن سيُحرق ويُلاحق ويتنحى بعد 33 عاماً من الحكم المطلق. وأخيراً، من كانت تسعفه ملكات الاستشراف والتخيل ليتوقع رؤية نظام بشار الأسد في سوريا تتصدع دولته ويتمرد على حكمه المطلق شعبه، بعد نصف قرن من قبضة الحديد والنار؟ أو أن يصل المنصف المرزوقي الشخصية المعارضة التونسية لرئاسة تونس؟ وأن يشكل المعارض اليمني محمد سالم باسندوه حكومة يمنية وعلي صالح قابع في صنعاء بعد أن تنازل عن السلطة، بمقتضى المبادرة الخليجية، التي طورت مع غيرها من المبادرات بوصلة موازين القوى العربية، ليبزغ نظام عربي جديد يتشكل لتكون الرياض وعواصم خليجية أخرى مثل الدوحة وأبوظبي والكويت هي مركز الثقل والقيادة العربية؟

والراهن أن سنة 2011 ظلت على امتداد أشهرها الصاخبة تؤشر، بشكل واضح، إلى حكم الشعوب، ونهاية حقبة التهميش وتزاوج السلطة والعشيرة والمال والفساد. وما رحلت سنة 2011 حتى اكتنزت بتغيرات وطبعت في الذاكرة أحداثاً وتطورات تؤسس لما بعدها في أكثر من دولة عربية. وسنتذكر هذه السنة على أنها كانت سنة اختزلت التاريخ ورسمت تصوراً للمستقبل الذي يأمل الجميع أن يكون أفضل من الماضي! كما تعلمنا شيئاً آخر من سنة 2011، هو ألا نغامر، كمحللين وأساتذة علوم سياسية وعلم اجتماع سياسي، فنتنبأ، لأننا في أغلب الأحيان سنخطئ وسنفشل!

وكل عام والجميع بخير... ونسأل الله أن يكون عام 2012 أكثر لطفاً ورفقاً بنا جميعاً!