عبدالحق عزوزي

إذا جاز لنا الخروج بحكمة وموعظة من سنة 2011 فإنه يمكن تلخيصها في الآية القرآنية الكريمة quot;قلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والْأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهquot; فالسنة التي ودعناها كانت مليئة بالمفاجآت والوقائع التي لم تخطر على بال أكثر الناس ذكاء، وأكبر المراكز البحثية في أميركا وأوروبا خبرة ومكانة، وأعظم المحللين والاستراتيجيين علماً ودراية، ما كان أحد يتكهن بأن نظام بن علي سيفنى بين عشية وضحاها، ولا تصور أحد أن أنظمة عربية عديدة ستتهاوى في رمشة عين، وما كان أحد يظن أن أنظمة ديمقراطية انتخبت بأذكى قواعد الشفافية ستزول بدورها كما في اليونان وإيطاليا وغيرها، إنها سنة تحملنا إلى مفهوم سياسي في أكبر معانيه، ألا وهو حمل العام والخاص على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، فلما كثرت المفاسد الناشئة عن بعض الأنظمة من القهر والظلم والتمتع باللذات وخيرات البلدان ولم يستطع المحكومون الحصول على رغيف الخبز الذي يسمن من جوع ثاروا على رؤسائهم حيث لم تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم من شيء فخسف الله بهم وبدارهم الأرض، فـquot;هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاًquot;!

ويمكن تلخيص المصالح الدنيوية اليوم في إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية: وهي مفاهيم لمعادلة توازنية مجتمعية واحدة، فتوطين العدل والعدالة يعني تحقيق الشرعية والمشروعية في النظام السياسي، ويعني ترسيخ مبادئ التعاقد والمواطنة وتأسيس حق عام هو الطريق الأنجع لرعاية الحقوق الفردية.


إن أنظمة تونس ومصر وليبيا مثلاً كانت بمثابة أجسام مغلقة على نفسها لا يدخلها الهواء النقي، وكانت منفتحة على قاعدة فئوية ضيقة تأخذ من ذلك الهواء الفاسد وتحاول أن تموه على الناس وتقول إنه هواء صالح للحياة، فافتقدت تلك الفئة إلى التمثيلية والشرعية القاعدية التي تصون السلطة بممارسة التفويض الشعبي وتسقيه كل يوم بمبدأ الثقة بين الحاكم والمحكوم الذي يحمي الغرس من الذبول والفناء.
تلك الأنظمة العربية لم تحقق لرعاياها الحضن الدافئ الذي يحميها من الأمراض والأعراض الضارة، ويوفر لها الأمن والطمأنينة والعيش الكريم ورغيف الخبز المقبول، ويتولى تحسيسها بأنها تنتمي إلى التاريخ، بدل القمع المادي والرمزي والاحتقان الاجتماعي والتسلط والانتهاب والحيف، فاقتدرت تلك الأنظمة على شعوبها لسنوات بل ولعقود ظانة أنها مسألة حتمية وقدرية، فرددت عليها التسلط والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن أصبح أهلها مغلبين لهم، ولكن لن يخطر على بالهم أنهم سيتعاورونهم فيما بعد باختلاف الأيدي وانحراف السياسة، والله قادر على خلقه.

تلك الفئات السياسية العربية لم تعرف معنى الملك الحقيقي وهو جلب المصالح الدنيوية للعباد ودفع المضار انطلاقاً من مقتضى النظر العقلي، بل لم تفهم من الملك إلا أنه يكون بالتسلط والمغالبة والممانعة والنعرة والتذامر.

غير أن تلك الفئات السياسية المتسلطة تفاجأت سنة 2011 بقوة ردع المجتمع الرقمي وتكنولوجيا الاتصال، فمنذ سنوات عديدة لم يكن هناك شيء اسمه الفيسبوك ولا التويتر، كما أن استعمال الإنترنت كان محدوداً وعدد الهواتف قليلاً جدّاً، أما اليوم فقد تغير كل شيء حتى إن عدد الهواتف النقالة في بعض البلدان العربية يتعدى عدد ساكنته. وطبعاً لم تخرج الثورات العربية من مقرات النقابات والأحزاب أو الخلايا النائمة، وإنما انطلاقاً من العالم الرقمي وتكنولوجيا الاتصالات التي حررت المسكوت عنه وقلبت الأوراق وخلطت الأمور، ولم تحتج في بدايتها إلى مسدسات أو دبابات أو صواريخ. بل احتاجت إلى عامل واحد: هو من يجمع شتات الشعوب في ميدان التحرير وسرت ودرعا وسيدي بوزيد وشارع بورقيبة! كانت العقول تغلي فاشتعلت ناراً بدون بنزين... اشتعلت فقط انطلاقاً من كتابة كلمات في أجهزة quot;لاب توبquot; والحواسيب الشخصية والهواتف الذكية وإرسالها إلى من يهمه الأمر.

إن سنة 2011 ستذكرنا بتلك الفئات السياسية العريضة التي لم تكن تتصور يوماً من الأيام مثلاً أن إسلاميي حزب النهضة سيدخلون المجال السياسي والمجال العمومي في تونس، وسيشاركون في انتخابات نزيهة لا تطؤها أيدي وزارات الداخلية.

سنة 2011 ستذكرنا بتلك الفئات السياسية العريضة التي لم تكن لتتصور يوماً أن قائداً مثل معمر القذافي سيصبح أضحوكة شعبه وهو الذي ادعى شدة البأس وتعود الافتراس وأن لا غالب غيره فنقم أقرب الناس عليه وتخاذلوا عن نصرته وثار الناس الذين ظنهم بلداء ومتبلدين.

وأما مقتضى النظر العقلي في السياسة في سنة 2011 فيعني تحقيق النمو والتنمية وتحسين مستوى العيش وتجذير مبدأ الثقة بين متخذي القرار والناخبين، إذ لا تكفي الديمقراطية اليوم لوحدها لإسكات غضب الشارع إذا لم يجد الإنسان ما يلبي متطلبات عيشه الآمن، فالديمقراطية لا تؤكل وإنما هي غاية أو وسيلة لتحقيق التنمية ورخاء الشعوب، وقائدو تلك الغاية أو الوسيلة هم النخبة المسيِّرة من ذوي الكفاءة والذكاء والتجربة الكافية التي تجعلهم يخططون وينفذون سياسات مصيرية لشعوبهم.

إن الحكومات العربية الجديدة أو التي لم يطمثها أي تغيير ينبغي أن تتعلم من تجارب اليونان وإيطاليا لسنة 2011 درساً جديداً في العلوم السياسية المقارنة وهو أنه على رغم تواجد حكومة ديمقراطية (حتى ولو كان عمر تلك الديمقراطية يتعدى القرن)، وإذا لم تحقق التنمية والرخاء لشعبها، فقد يخرج هذا الأخير إلى الشارع للمطالبة بالعدل والعدالة الاجتماعية واستبدال الحكومة المعينة ديمقراطيّاً بحكومة أخرى.

اقرأ المزيد : وجهات نظر | 2011... دروس وعبر | Al Ittihad Newspaper - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=63384#ixzz1iL2Y86wH