لندن


عندما يحذر السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي من انفجار حرب أهلية في بلاده بسبب الفوضى التي تعمها، وانتشار الميليشيات المسلحة، فان هذه التحذيرات يجب ان تؤخذ بجدية مطلقة، لان الرجل يحتل المرتبة الأعلى في سلم الحكم، ويعرف جيداً ما يجري على الأرض من احداث.
قليلة هي الأخبار التي ترسم تفاصيل دقيقة للمشهد الليبي، بعد نجاح حلف الناتو والميليشيات المنضوية تحت عباءة المجلس الوطني في اسقاط نظام العقيد معمر القذافي، واستعادة العاصمة الليبية طرابلس وباقي المدن الاخرى من قبضته، فمحطات التلفزة العالمية التي كانت تزدحم بها العاصمة الليبية طرابلس او شقيقتها بنغازي التي شهدت الشرارة الاولى للاحتجاجات، غادرت فور انتهاء عمليات حلف الناتو ولم تعد تهتم بما يجري من تطورات، او ترصد الاعراض الجانبية لمرحلة ما بعد الاطاحة بالنظام الديكتاتوري السابق.
الاشتباكات المسلحة والدموية التي انفجرت في مدينة طرابلس بين عناصر تابعة لكتائب مصراته واخرى تابعة للمجلس العسكري، وأدت الى مقتل ستة أشخاص واصابة العشرات، تعيد تسليط الاضواء على حالة فوضى السلاح والميليشيات التي باتت الطابع الرئيسي للعاصمة وبعض المدن الأخرى.
في ليبيا أربع ميليشيات رئيسية، الاولى كتائب الزنتان التي تسيطر على مطار العاصمة وبعض احيائها، وكتائب المجلس العسكري التي يتزعمها السيد عبد الحكيم بلحاج، وكتائب مصراته وأخيراً قوات الجيش الوطني.
أهالي العاصمة ضاقوا ذرعاً بوجود هذه الميليشيات والحواجز الامنية التي اقامتها لتفتيش السيارات، وتظاهروا اكثر من مرة للتعبير عن غضبهم من هذه الفوضى، ولكن وعود المجلس الوطني ورئيس وزرائه السيد عبد الرحيم الكيب بجمع السلاح واستيعاب المسلحين في القوات المسلحة لم تطبق حتى الآن، ولا يوجد اي مؤشر الى انها ستطبق في المستقبل القريب، بسبب ضعف السلطة المركزية اولا، وعدم رغبة الميليشيات في التنازل عن سلاحها.
ويتكهن كثيرون بان الموقف قد يزداد سوءا في حال تحرك بعض العناصر التابعة للنظام السابق لتهديد الامن والاستقرار، وهناك بعض الايحاءات في هذا الصدد، كان ابرزها بدء بث قناة الجماهيرية مجددا عبر قمر صناعي يبث على التردد نفسه الذي يبث عليه قمر 'النايل سات'، وهو بث افزع السيد عبدالله ناكر قائد كتائب الزنتان لدرجة الاقدام على تهديد الحكومة المصرية باغلاق الحدود، واتخاذ اجراءات انتقامية اخرى ضدها.
في ظل غياب المصالحة الوطنية، وعملية الاقصاء للرأي الآخر، من غير المستبعد ان يحاول فلول النظام السابق تجميع صفوفهم، خاصة ان نسبة كبيرة منهم تنتمي الى قبائل كبرى معروفة، مثل المقارحة والورفلة، وقد يجدون في فوضى السلاح والاشتباكات بين ثوار الامس المناخ الملائم للعودة مجددا، وربما بطريقة دموية، الى المشهد السياسي الليبي، تماما مثلما حدث في العراق بعد اشهر من اطاحة النظام العراقي السابق.
الاوضاع ما زالت غير مستقرة في ليبيا الجديدة، والبلاد تحتاج الى زعيم قوي يتمتع بشخصية قوية كارزمية تفرض هيبتها على الجميع، ولا نعتقد ان المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي يصلح لادارة البلاد في هذه المرحلة الصعبة. فالرجل يتمتع بطيبة ونزاهة عاليتين، ولكن هذا لا يكفي لفرض هيبة الدولة واحترامها، واقامة مؤسساتها وضبط الامن في ربوعها مثلما يطمح معظم المواطنين الذين علقوا آمالا عريضة على العهد الجديد لتحسين ظروفهم المعيشية بعد سنوات من القهر والفساد وغياب الحريات.
لا نجادل في انه من الضروري التريث وعدم اصدار احكام مسبقة، خاصة ان عمر انتصار العهد الجديد ما زال اشهرا معدودة، ولكن المقدمات توحي بالنتائج والصورة التي يمكن ان يكون عليها المستقبل، ولهذا من حق الكثيرين، ونحن من بينهم ان نضع ايدينا على قلوبنا خوفا من انجراف ليبيا الى حالة من الفوضى العارمة والحرب الاهلية بين الميليشيات او بين القبائل الموالية او المعارضة للنظام الجديد، والمستشار عبدالجليل لا ينطق عن هوى عندما يطلق تحذيراته في هذا الصدد.