سعيد بنسعيد العلوي


laquo;ما يحدث الآن في مصرraquo; (أستحضر عنوان رواية شهيرة للروائي الكبير يوسف القعيد، وأحييه بهذه المناسبة) يشغل منا، في مختلف أرجاء العالم العربي فيما أحسب، الفكر والوجدان. لا غرو أن ما يجري في أرض الكنانة شأن مصري محض ليس يحق لأي كان أن يحشر فيه أنفه فذاك أمر يتصل بالسيادة الوطنية، وهذه الأخيرة مبدأ أسمى لا يعلى عليه وحاجز ينبغي الوقوف عنده والشأن كذلك بالنسبة لكل الدول والشعوب فالمبدأ صادق في إطلاقه. الانشغال بما لا تزال مصر تشهده وما نسأل الله تعالى أن تخرج منه قوية منتصرة، بل أن تزداد تماسكا وقوة، يصدر، أولا وأساسا، من الانتماء إلى رابطة العروبة التي تجمع بيننا وآصرة الدين الإسلامي التي توحد بيننا حضارة ثم عقيدة. والاهتمام بما تموج به الساحة الثقافية والمحيط السياسي في بلد إحدى أعظم الحضارات وأقدمها في التاريخ البشري إنما هو انتباه إلى إحدى الكيفيات الممكنة التي سيتم بها حل أحد الإشكالات الكبرى التي ما يفتأ الوجود السياسي يجابه الإنسان العربي المعاصر بها في الأزمنة المعاصرة: قضية الدولة الحديثة، دولة القانون أو الدولة المدنية، والمسميات كلها تفيد في نهاية المطاف معنى واحدا. ما يحدث في مصر الآن أو، بالأحرى، ما تشهده مصر منذ حدث 25 يناير من العام المنصرم هو ترجمة عملية، في ميدان التحرير (وقد اعتبرنا الميدان من حيث دلالته الرمزية التي تجعل منه ترجمانا لأحاسيس الإنسان المصري)، لإشكالية نظرية - سياسية هي إشكالية بناء الدولة الحديثة على الحقيقة في بلد له من المواصفات ما لمصر ومن كان مشابها لها في بنيته الاجتماعية وتركيبته الثقافية عامة والجزء المتصل منها بالحياة الدينية خاصة. بحثا عن الوضوح والفهم والتماسا لخارطة طريق يمكن الأخذ بها دون خشية الضياع وقبسا يصح استمداده نورا ينير الطريق، وجدتني أرجع مرة أخرى إلى laquo;وثيقة الأزهر حول مستقبل مصرraquo;.

في باب التذكير الضروري بالوثيقة المذكورة، ظرفيتها وتاريخها والأطراف التي وقعت عليه، إضافة إلى الأزهر الشريف أستسمح القارئ الكريم في الوقوف عند وثيقة الأزهر هذه وقفة تلخيص مختصر لمحتوياتها وإشارة إلى الموقعين عليها بل وأن أعمد إلى ما أعتبره قراءة شخصية لها، قراءة لا مندوحة لها، بطبيعة الأمر من التقييم وإصدار الحكم. قراءة ترى في وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر جوابا نوعيا عن السؤال المتعلق ببناء الدولة الحديثة في العالم العربي، بناء لا يملك أن ينفك عن التفاعل مع حال هذا الانتفاض العربي.

شارك في إعداد الوثيقة كوكبة من ثلاثين فردا من مختلف الحساسيات السياسية والانتماء إلى مجالات الفلسفة والاجتماع والنقد والاقتصاد والإبداع ومن علماء الأزهر من اختصاصات عديدة فضلا عن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذي قدم للوثيقة بكلمة شديدة الأهمية هي أول ما يستوقفنا.

في كلمة شيخ الأزهر وعي تام بأهمية وخطورة اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر. مستقبل مصر بعد الثورة هو وجهة الخطاب عند الدكتور أحمد الطيب وهموم الوحدة الوطنية والحفاظ على حضارة الأمة والضن على الهوية القومية من الضياع، مع الإيمان بالدور التاريخي للأزهر في الدفاع عن الشخصية المعنوية المصرية وتراثها الحضاري كل هذه، مجتمعة تشكل موجهات الخطاب وترسم معالم الطريق. ثلاثة موجهات يحرص شيخ الأزهر على تسطيرها والإعلان الصريح عنها: أولها اعتبار laquo;الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة من ثوابت المطالب الوطنيةraquo;. وثانيها المواطنة laquo;الكاملةraquo; والتداول الحقيقي للسلطة. وثالثها اعتبار الوثيقة هذه ميثاق شرف من جهة ومنارة يسترشد بها عند وضع الدستور. خطاب واضح ومبادئ كلية ليست أقل وضوحا.

أما الوثيقة ذاتها فهي، بعد التنبيه إلى الدور القيادي للأزهر في تاريخ مصر وإلى الأبعاد المختلفة لذلك الدور القيادي، تتوزع في شقين اثنين متكاملين؛ الشق الأول ذكر لجملة مرجعيات يجمل بالمصريين، ممثلين في طلائعهم المثقفة، استلهامها. والشق الثاني هو مجموع المبادئ العليا التي يتعين الأخذ بها من أجل حسن إدراك laquo;المرجعية الإسلامية النيرةraquo; - وعدد هذه المبادئ أحد عشر مبدأ.

فأما المرجعيات الواجب استحضارها فهي laquo;روح تراث أعلام الفكر والنهضة.. في الأزهر الشريفraquo; من جهة أولى، وlaquo;إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطور المعرفي والإنساني وهذا من جهة ثانيةraquo;. وأما الشق الثاني فيقتضي، بدوره، التسليم بالمبادئ العليا التي يجب الارتكان إليها والانطلاق وهي ثلاثة: التقرير بأن الإسلام لم يعرف قط الدولة الدينية على النحو الذي كانت عليه في العصر الوسيط المسيحي، فذاك تصور سياسي لا علاقة له بالإسلام تشريعا وحضارة. القول نعم لمبادئ الشورى الإسلامية، مع التسليم بأن السبيل إلى تحقيقها هو laquo;النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشرraquo; - وإذن فلا بديل عن الديمقراطية. من ثم فلا مندوحة عن laquo;تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمةraquo;. وأما المبدأ الثالث فيقضي بوجوب laquo;دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمةraquo;.

إذا جاز لنا أن نجد لمشروع الدولة المصرية الحديثة، كما ترسم وثيقة الأزهر سماته الكبرى، نعتا عاما أو عبارة جامعة تفي بالقصد في التعبير عنه فنحن نقول: ما تستهدفه وثيقة الأزهر هو تأسيس الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية. ربما اقتضى الأمر أن نكون أكثر دقة في التعبير فنقول إن الأمر في وثيقة الأزهر يستهدف إرساء الدعائم التي تقوم عليها الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية في مصر ما بعد ثورة 25 يناير. نحسب أن بناء هذه الدولة في مصر الآن هو الأمل الذي يتطلع إليه المفكرون والمبدعون الذين اجتمعوا بدعم من شيخ الأزهر، بدلالة اللغة القوية الواضحة التي يقدم بها الدكتور أحمد الطيب لتلك الوثيقة. ونحسب كذلك أن أولئك المفكرين والمبدعين، في تنوع مجالات اهتمامهم وفي الائتلاف الموجود بين رؤاهم السياسية والفكرية إنما هم يعبرون عن آمال وتطلعات الشعب المصري في تنوع مكوناته في وحدة وتماسك وفي اختلاف رؤاه مع التئامه في أفق واحد هو أفق مصر الأمة الواحدة والدولة الواحدة، دولة المواطنة والحرية والعقل ومراعاة حقوق الإنسان.

أرجع الآن إلى الموقع الذي آليت على نفسي أن أقف عنده فلا أتجاوزه، فليس يحق لي ذلك إلا أن أكون متطفلا، فأبدي جملة ملاحظات أسوقها على سبيل الإسهام في تنوير القضية الأم التي تملأ منا العقل والوجدان في عالمنا العربي مع اختلاف نحلنا السياسية وتباين أشكال الحكم التي ارتضيناها.

الملاحظة الأولى هي أن الوثيقة قد أفلحت بالفعل في رفع الالتباس القائم في الكثير من الأذهان بين بناء الدولة المدنية (أيا كانت المسميات: دولة القانون، الدولة الحديثة، دولة المواطنة الصحيحة..) وبين اعتماد المبادئ العليا التي يقرها الإسلام واعتمادها مرجعية عليا، وأخصها مبدأ الشورى.

الملاحظة الثانية هي أن بناء الدولة المدنية، على النحو الذي تقرره وثيقة الأزهر، يقتضي إعمال العقل الفقهي إعمالا يتوخى التجديد في الدين والتجديد في الدين، كما هو معلوم، درجة من النظر عالية ليس يطيقها كل أحد فدون من يطمح إلى تلك الرتبة شروط ثقيلة.

الملاحظة الثالثة، والأخيرة، هي أن الناظر في أحوال مصر والتأمل في بنيتها الاجتماعية والمطلع على تاريخها السياسي والفكري معا يجد أن الوثيقة تستوجب استحضارها حين الإقبال على كتابة الدستور المصري من حيث أن الدستور هو الميثاق الأعلى الذي تستمد منه الأحكام والتشريعات والسلطة العليا التي تستمد منها السلطات الكبرى الثلاث.

كتبت وثيقة الأزهر حول مصر في عنفوان الثورة المصرية (19 يونيو 2011) بيد أنها، مع عنف الأحداث التي شهدتها مصر بعد ذلك، فهي لا تزال قوية نفاذة. لا بل إنها تغدو بسبب تلك الأحداث أكثر راهنية. حفظ الله مصر أمة ودولة.