محمد الصياد

بدت الولايات المتحدة، على جري عادتها، أكثر ألد أعداء كوريا الشمالية تحفزاً، فور الإعلان في بيونغ يانغ عن الوفاة المفاجئة لدكتاتور كوريا الشمالية كيم إيل جونغ، حيث نشطت خطوط اتصالاتها وتحركاتها الدبلوماسية باتجاه كافة الدول العدوة والصديقة لكوريا الشمالية في منطقة الباسيفيكي، وراحت ماكنة البروباغندا الإعلامية تؤول وتحلل وتذهب يمنة ويسرى، في محاولة للتأثير في مجريات الحدث داخل كوريا الشمالية نفسها وعلى الصعيد الإقليمي .

طبعاً لا أحد يمكن أن يجادل في أن نظام كوريا الشمالية هو أكثر الأنظمة شمولية وقمعية في العالم أجمع . إنه ينتمي إلى مخلفات الأنظمة الدكتاتورية المتبقية في ldquo;العالم الثالثrdquo; . بمعنى أن ldquo;العالم الثالثrdquo; آخذ في التحول بسرعة من الدكتاتوريات التي تساقطت وتتساقط الواحدة تلو الأخرى، في الوقت ذاته الذي بقيت فيه الديمقراطيات الغربية على ما هي عليه، ديموكتاتوريات، أي دكتاتوريات ناعمة مغلفة بأنظمة ديمقراطية محكمة التوجيه . ولا أدل على ذلك من نظام الحزبين اللذين يتناوبان على احتكار كرسي الحكم الفيدرالي وكافة مؤسسات الحكم المفتاحية منها والفرعية في الولايات المتحدة والذي لم يتغير قيد أنملة رغم كل تيارات التغيير العاصفة التي هبت على أنظمة ومؤسسات الحكم وأساليبها في الكرة الأرضية . في السياق ذاته، فلقد اعتبر صعود الحزب الديمقراطي الليبرالي في بريطانيا في الانتخابات الأخيرة (مايو/ أيار 2010) ودخوله في ائتلاف حكومي مع حزب المحافظين، مفاجأة من العيار الثقيل، مفاجأة كسرت ldquo;تابوrdquo; النظام السياسي ونمط الحياة السياسية في بريطانيا، فلقد ظل حزب المحافظين والحزب الليبرالي يهيمنان، في احتكار ثنائي، على الحياة السياسية البريطانية طيلة حوالي قرنين ونصف القرن، من عام 1679 إلى ،1918 أي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث احتل حزب العمال منذ ذلك الحين موقع ldquo;الثنائية السلطويةrdquo; محل الحزب الليبرالي الذي صار دوره هامشياً في الحياة السياسية البريطانية قبل أن يعيد تسمية نفسه في عام 1988 بعد اندماجه مع حزب آخر صغير هو الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي أنشئ مطلع ثمانينات القرن العشرين الماضي بعد انشقاق مجموعة عن حزب العمال .

لقد كان العالم شاهداً على حجم القمع الذي مورس، ومازال، على حركة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي اندلعت ضد دكتاتورية رأس المال ونخبه السياسية والتنظيرية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والتعتيم الإعلامي شبه الكامل عليها . فالتصريحات العذبة المطنبة عن حقوق الإنسان في العلن لا تتطابق مع ما تمارسه هذه النخب الحاكمة في الخفاء . وليس خافياً في هذا الصدد ما قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا الغربية من أعمال تعذيب ممنهجة وواسعة النطاق سواء مباشرة من قبيل تلك التي قيض للحقيقة إظهارها والتي حدثت في سجن أبوغريب أو سجن غوانتانامو أو في القواعد العسكرية الأمريكية والأخرى التابعة للناتو في أفغانستان، أو بالوكالة، حيث أرسلت ال ldquo;سي آي إيهrdquo; ldquo;دفعاتrdquo; غير معلومة العدد من المعتقلين إلى عدد كبير من البلدان في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط لتعذيبهم بغرض انتزاع اعترافات منهم بالقوة . وكلنا يعلم أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش كان لديها فريق سري يترأسه نائب الرئيس ديك تشيني مكلف بتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية سرية في جميع أنحاء العالم للمشتبه في انتمائهم إلى تنظيم القاعدة . وهناك جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الأمريكيون في العراق والتي شملت حالات اغتصاب لصبايا وقتلهن والتخلص من جثثهن حرقاً، والتي لم تسفر سوى عن محاكمات للجنود الصغار وإصدار أحكام مضحكة بحقهم .

وبحسب صحيفة ldquo;واشنطن بوستrdquo; (وهو مصدر لا يمكن الطعن فيه واتهامه بمعاداة الولايات المتحدة بطبيعة الحال) ldquo;فإنه وفي تطور مقلق خلال الأسابيع القليلة الماضية، تم استخدام مادة رذاذ الفلفل الكيماوية ضد المتظاهرين المسالمين في الولايات المتحدة، وهو ما يسبب احمراراً وتورماً وسعالاً ولهاثاً ويستمر وقتاً طويلاً، وقد يؤدي إلى تلف أنسجة الجهاز التنفسي . وهو مادة محظورة بموجب اتفاقية حظر انتشار الأسلحة الكيماويةrdquo; (موقع الصحيفة على الإنترنت، الأربعاء 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011) . وتنتج هذه العبوات من الغازات المسيلة للدموع شركة ldquo;كومبايند سيستم إنكrdquo; (Combined Systems Inc . - CSI) ومقرها جيمس تاون في ولاية بنسلفانيا . وتزود هذه الشركات قوات الأمن في الولايات المتحدة وفي بقية أنحاء العالم بهذه العبوات . وكلنا يعلم كيف تعاملت قوات الأمن الخاصة الأمريكية بوحشية مع التظاهرات السلمية ضد طغيان وفساد وول ستريت، وكيف اقتحمت حرم جامعة ديفيس بولاية كاليفورنيا وهاجمت الطلاب بخراطيم رذاذ الفلفل .

جاء في الكلمة التي ألقاها الفيلسوف الأمريكي ldquo;سلافو جيجيكrdquo; أمام حشود المحتجين في وول ستريت: ldquo;إنهم يعملون بالفعل على الإضعاف من هذه الصيرورة بالطريقة ذاتها التي نحصل بها على قهوة من دون كافيين، وعلى مثلجات بلا دهون، سيحاولون أن يجعلوا من هذه الصيرورة مجرد احتجاج أخلاقي غير مؤذ، صيرورة بلا كافيين . تابعوا اليوم وسائل الإعلام فحسب، من جهة أولى، في ما يتعلق بالجنس والتكنولوجيا، كل شيء يبدو ممكناً . بإمكانك التجول على القمر، بإمكانك أيضاً أن تصبح خالداً عبر البيولوجيا الجينية، بإمكانك كذلك ممارسة الجنس مع الحيوانات أو أياً يكن، ولكن انظر إلى ميدان المجتمع والاقتصاد، هنا، كل شيء تقريباً يعتبر مستحيلاً . ترغب في زيادة الضرائب قليلاً على الأغنياء، يخبرونك بأن ذلك مستحيل، سنفقد القدرة التنافسية، مستحيل، معناه دولة توتاليتارية، هناك خطب ما في العالم، حين يسمح لك بأن تصبح خالداً، فيما ليس بإمكانك أن تنفق قليلاً على العناية الصحيةrdquo; .

وهكذا فإن هذه الرأسمالية في مرحلتها المتقدمة من إصرارها العنيد على المواءمة بين اتجاهاتها المتوحشة وآليات ضبطها الديمقراطية لا تستطيع ديمقراطيتها، وقد جاوز سنها الستمئة سنة، أن تمنعها من إلقاء أعباء أزماتها المالية على كاهل عموم العاملين، والسطو على مدخراتهم وحيازاتهم السكنية، كما ترينا أحداث اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها .

هل بعد هذا يمكن للمؤسسات الحقوقية عبر العالم أن تتوقع من حكومات هذه الرأسماليات التي تمارس التعذيب الممنهج والقمع ldquo;الذكيrdquo; للاحتجاجات داخل بلدانها، أن تتحرك لحث الآخرين بصدق على عدم إتيان هذا الفعل الذي يعد أحد أنواع الجرائم التي تنظرها محكمة الجنايات الدولية؟