ميشيل كيلو

بقدر ما تتصاعد المطالبة الداخلية والخارجية بتدخل عربي ودولي، بقدر ما تبدو وكأن القصد منها إحراج العالم وتحدي قدرته على مساعدة السوريين وتقديم ما يطلبونه من حماية.

خلال الأشهر العشرة الأخيرة، مرت علاقة السوريين بالدول الأجنبية في تعرجات عرفت صعودا وهبوطا متداخلين حينا، ومتتابعين حينا آخر. في بداية الأحداث، تحمس العالم الخارجي وأطلق تصريحات شديدة التأييد للحراك الشعبي ولمطالبه، اعتبرته جزءا رئيسيا من تقدم الديمقراطية الكوني، والتي تمر في موجة ثالثة تجتاح البلدان العربية وتقدم مطالب شرعية ومقبولة تنضوي في سياق عالمي لا عودة عنه. هذه الحماسة التي عرفت تصاعدا كلاميا مع تقدم حركة الاحتجاج، أقنعت المحتجين السوريين بأن قضيتهم صارت مشمولة برعاية خارجية مماثلة أو مساوية لتلك التي عرفتها مصر وليبيا، وأن ميزان القوى الداخلي سيشهد إضافات خارجية قد تكون حاسمة في حسم الأوضاع لصالحهم. وزاد من ميلهم إلى هذه الفكرة ما كانوا يواجهونه من حل أمني على الطريقة الليبية، ظنوا أنه لا بد أن يواجه في لحظة ما بحل دولي يماثل ما طبق ضد نظام العقيد بدءا من معركة بنغازي وحتى سقوطه.

هذا الجو الخارجي أسهم عمليا في دفع الحراك إلى مزيد من الجذرية والانتشار، بينما كانت العقوبات والتدابير الرادعة تتخذ ضد أهل النظام وقادته، وتشمل قوسا واسعا جدا من الإجراءات غير المسبوقة في علاقات الخارج مع الحكم السوري، طاولت فيما طاولته عقوبات قانونية واقتصادية وسياسية لم تترك جانبا من الحياة الرسمية إلا وانصبت عليه، وتعمدت إلحاق أعظم قدر من الضرر به.

لكن هذه الحماسة الخارجية العامة التي اجتاحت جميع الدول القريبة والبعيدة على وجه التقريب، ما لبثت أن تراخت، من حيث وضوح الدعم أو وتيرة التدابير، حتى بدا وكأن العالم بدأ يدير ظهره للحدث السوري. ولولا أن بلدانا عربية بعينها، هي بعض دول الخليج المؤثرة كالمملكة العربية السعودية وقطر والكويت، دخلت على خط العقوبات وسحب السفراء، لكان الدعم الخارجي للحراك شهد انحسارا ملموسا، ولكان صوت السوريين اليائس الذي أطلق شعار أو نداء laquo;يا الله ما لنا غيرك يا اللهraquo;، قد عبر عن حقيقة الوضع.

وزاد الطين بلة أن التراجع وقع بينما كان حل النظام الأمني يتسع وينتشر في كل مكان، وأهل الحراك يشعرون بخطأ تخميناتهم حول سهولة التدخل الدولي وتكرار تجربة ليبيا في بلادهم، ويحسون بشيء من خيبة الأمل حيال الخارج، ويتوصلون من تجربتهم إلى نتيجة إيجابية هي أنه لن يحك جلدهم مثل ظفرهم، وأن عليهم موازنة التراجع الدولي بزيادة الحراك الداخلي وتمتينه وتصليبه، وهذا ما فعلوه رغم التضحيات الهائلة التي كانوا يقدمونها كل يوم وفي كل قرية ومدينة. هذه الحقبة، وهي الثانية في مسار الحركة الشعبية، عرفت أضخم المظاهرات وأكثر أشكالها انتشارا وجدية، وطورت خيارا لعب فيما بعد دورا مهما هو: البقاء في الشارع مهما كان حجم الضغوط الأمنية، والرد على العنف الرسمي بكثافة الإسهام الشعبي في الاحتجاج وبديمومته، وإيصاله على كل بيت وزاوية وشخص.

بهذه الصلابة التي أبداها الشعب، استعاد الدعم الكلامي الخارجي حيويته، واتسعت العقوبات ضد أهل النظام من جديد، وطرحت مبادرة كان الهدف منها الوصول إلى حل عربي بعد أن أفشل الحل الأمني الحل الداخلي، وبدا وكأن العالم يترجم دوره إلى دعم يمنحه لدور عربي كمُن وراء قرارات الجامعة العربية وخطواتها السورية، كما كمُن وراء تأييد المجلس الوطني السوري الذي تشكل خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبدا لوهلة أنه قناة سيمر منها أي دور خارجي، وأن وجوده يحول الأدوار العالمية إلى أدوار غير مباشرة، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة تناقص دعم الخارج أو تراجع أهميته.

في هذه الحقبة، ولأن المجلس تشكل تلبية لطلب خارجي أيضا، صعدت دول كثيرة لهجتها وتدبيراتها السلبية من جديد، ونشطت دول إقليمية على رأسها تركيا مشاركتها في الضغط على النظام، وصدرت تصريحات متكررة تطالب الرئيس الأسد بالرحيل وتعلن بشيء من المبالغة أن نظامه يعيش أيامه الأخيرة. في هذه الحقبة أيضا، عمد سفراء بعض الدول الكبرى كأميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى المشاركة في مجالس العزاء وزيارة المدن الثائرة، وإدانة تصرفات الأمن ضد الأهالي في المناطق التي كانوا فيها.

رفع تكوين المجلس سقف المطالبة بأدوار دولية أكثر نشاطا وحسما في الشأن السوري، بعد أن بدا وكأن توازن القوى بين النظام والشارع غير قابل للكسر، وأن الأزمة ستمتد لحقبة طويلة لن يتوقف القتل خلالها، رغم انتشار السلاح في مناطق التظاهر، وبروز ظاهرة الجيش السوري الحر الذي أعلن عزمه على حماية المدنيين بالقوة، وتعاظم خسائر أجهزة النظام الأمنية، وتصاعد القلق في صفوف أنصاره، بسبب كثرة ما كان يصل إلى مناطقهم من قتلى، وعدم انكسار الحراك الشعبي، حتى في المدن التي أعيد احتلالها كحماه وإدلب، وخاصة حمص، ومعظم أرياف البلاد.

واليوم، وبعد مرور عشرة أشهر ونيف على الصراع الدائر في سوريا، يبدو أن الموقف الدولي قد استعاد غموضه واسترخاءه، كما يبدو وكأن العرب لا يعرفون ما يفعلونه غير إلقاء عبء عجزهم على عالم يلقي بدوره عبء حيرته وظروفه على عاتقهم، بينما يتعاظم القتل حتى في حضور مراقبي الجامعة العربية، ويزج بمزيد من القوات في الشوارع بدلا من سحبها منها، كما يقول قرار الجامعة، ويتعاظم بدوره حجم العنف ويبتعد النضال الشعبي عن أهدافه الأولى وينخرط أكثر فأكثر في متاهات داخلية، طائفية وجهوية بالأساس، خطط النظام منذ البداية لزجه فيها، على أمل دفع الأمور نحو شكل جديد للأزمة، يجعل من الصعب على سوريا الخروج منه بقواها الذاتية، الموالية منها والمعارضة. فماذا يمكن للحراك ولمن يمثلونه في المعارضة فعله لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه عند انطلاقتها الأولى، لقطع الطريق على احتمالات الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي، ولتطوير أساليب وخبرات نضالية تسهم في مزيد من رجحان ميزان القوى لصالح الحراك، كان آخرها الإضراب العام ومحاولة الزحف إلى ساحات الحرية؟.

في أساس الحل الأمني الذي اعتمده النظام السوري، ثمة فكرة مضمرة تقوم على دفع الأمور إلى نهاياتها القصوى، كي لا يبقى أمام الخصم غير أحد خيارين: التراجع، أو الانخراط في وضع ليس ملائما له. بينما يلعب هو كنظام بورقة الزمن ويرتب أموره على اتخاذ جميع التدابير الضرورية لتصعيد تحديه والتمسك به إلى أطول فترة ممكنة، لأن هذا هو الذي سيرغم الخصم على الانسحاب أو الاندفاع وراء مغامرة ليست مضمونة النتائج. واليوم، يعتقد النظام أنه لم يبق أمام العالم غير خيار واحد هو الانسحاب، ما دام تعقيد الأمور أوصلها إلى حال تجعل من الصعب عليه الانخراط التام في الصراع، علما بأن فشل المبادرة العربية وعجز العرب عن فعل شيء حاسم سيجبر الخارج على اتخاذ قرار عاجل، يبدو جليا أنه يخشاه، لأنه يمكن أن يورطه في مأزق حقيقي وخطير.

ماذا سيفعل العالم؟ لن ننتظر الجواب طويلا. إنها مسألة أسابيع قليلة وحسب!