محمد خليفة

أجمعت الصحف الأوروبية الصادرة، يوم الخميس المنصرم، على رسم صورة قاتمة لمستقبل الاتحاد الأوروبي وفقاً للمحللين السياسيين والاقتصاديين، بمصير قاتم ومستقبل مجهول، بعد أن تأكد أن عملة اليورو أصبحت سبباً رئيساً للخلاف بين هذه الدول، وبهذا يتهاوى حلم القارة العجوز في إقامة كيان موحد . ومرة أخرى يقفز الاتحاد الأوروبي إلى بؤرة الأحداث، ولكن من زاوية أخرى بعيدة عن الجانب السياسي الذي كان يلعبه متناغماً مع الموقف الأمريكي، ولكنّه يعود هذه المرة من خلال أزمة اقتصادية طاحنة تكاد تعصف بهذا الاتحاد الذي صمد كثيراً أمام الأزمات .

إن أحداث الكون لا تحكمها أبداً المصادفات ولا النزوات، بل يحكمها قانون أخلاقي يوفق بين العالم الخارجي الخاضع للزمان والتبدل والصيرورة، وبين العالم الداخلي الذي يتحكّم فيه تيار التغير والتبدل . ولا جدال أن كل وحدة أو اتحاد هي عملية توافق في الرؤى والأهداف، وتوحد في الإرادات . والحق أن المتأمل في تطورات الوحدة الأوروبية يرى أن التكامل بدأ يتراجع، نتيجة لانهيار سياسة التوازن التي اعتمدتها الدول الأوروبية، ومن المعلوم أن من يبني سياسته على التوازنات، يكون كمن يحاول أن يبني بيته فوق أمواج البحر، فاللعب بالتوازنات وعلى التوازنات بين الدول قد يكون عملاً ضرورياً يستوجب التكتيك، أما أن يغدو استراتيجية اقتصادية محضة فهذا أمر بالغ الخطورة، وذلك بعد تأكيدات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن خطر تفكك أوروبا لم يكن يوماً كبيراً كما هو اليوم . وقبل ساعات من افتتاح القمة الحاسمة في بروكسل يوم الجمعة التاسع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال: ldquo;إن الوضع خطر، وإن اليورو يمكن أن ينفجر، وأوروبا يمكن أن تتفككrdquo;، وهذا قد يؤدي إلى كارثة ليس على أوروبا وفرنسا فحسب، بل على العالم بأسره . وقد عُدّت هذه القمة حاسمة لمستقبل اليورو الذي يواجه مخاطر نتيجة الأزمة اليونانية بعد التحذيرات المتكررة من وكالة ldquo;ستاندارد آند بورزrdquo; للتصنيف الائتماني التي هددت بخفض تصنيف دول منطقة اليورو، وانتقدت الاتحاد الأوروبي ومصارفه .

وهكذا تأتي رياح الأزمة الاقتصادية عاصفة، لا تجرف في تيارها العارم الاتحاد الأوروبي وحسب، ولكن ربما أقطار العالم كافة، وتأتي هذه الأحداث متسارعة في إيقاعها، هادمة في زخمها، ما جعل العديد من قادة أوروبا يعلنون عجزهم عن التصدي لهذه الأزمة المالية، أو التحكم حتى في مسار تطوراتها التي لم يكن يُتَوقع ألبتة أنها ستتخذ هذا المنعطف الخطر، أو يكون لها ذلك الزخم الهائل .

إن استنطاق المشهد السياسي العالمي، وفي القلب منه الاتحاد الأوروبي، يدرك عمق هذه الأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلالها الكثيفة على الوضع السياسي والاجتماعي، بل واستمرار الاتحاد في صورته الحالية . وقد أعلنت كل من فرنسا وألمانيا -القوتان اللتان تهيمنان على الاتحاد- أن الاتحاد الأوروبي في حاجة ماسة إلى معاهدة جديدة أكثر صرامة على أعضاء الاتحاد، أو من يرغب في الانضمام إليه، وكذلك إبرام معاهدة أوروبية جديدة ذات بنود مالية ملزمة للدول الأعضاء في منطقة اليورو .

إن الصراع الثقافي والاقتصادي يندرجان اليوم ضمن بنية المواقف الأيديولوجية، ومدن الرأسمالية الأوروبية أصبح يسكنها الصخب السياسي والاجتماعي، وتقف اليوم على شفا الانهيار بعد أن أمسى التنازع السياسي جزءاً لا يتجزأ من تنازع المصالح الاقتصادية . وهذا ما خلخل الركائز الأساسية التي بُنِيَ عليها هيكل الثقافة الإنسانية الأوروبية، والذي تحول إلى معارك ومجادلات على المفاهيم النظرية التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الأوروبي، خاصة بعد تطبيق اتفاقيات منظمة التجارة الدولية، وبروز قوى كونية اقتصادية أخرى مثل الصين وغيرها . خاصة أن الصين ودول شرقي آسيا بدأت تجذب العديد من رؤوس المال الأوروبية، نظراً إلى التسهيلات التي تقدمها تلك الدول للمستثمرين الأوروبيين، خاصة الشركات الكبرى، وكذلك رخص العمالة الآسيوية، إضافة إلى الأسواق الكبرى في هذه البقعة ذات الكثافة السكانية العليا . كل هذا ألقى بظلاله على العمالة الأوروبية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها دول الاتحاد الأوروبي كاليونان، وعلى طريق اليونان تسير دول أوروبية أخرى .

إن هذه الأزمة الاقتصادية تفرض تأثيرها القوي وأصبحت أكثر اقتراباً من الهاجس الجمعي، ولكنها في العمق تشير إلى سعي الإنسان للتحرر من جاذبية الأزمة، بحيث يتشكل العقل على صورة العالم بعد اعتبار العامل الاقتصادي، أنه عامل الحسم في التعاون بين الدولة والمبدأ الذي يقوم عليه هذا التماسك، ومن مبدأ الحتمية والاحتمالية في حقيقة ماديتها، وبما أن الحتمية كما هو معروف، هي أحد الأركان الأساسية للمادية الجدلية وبعيدة عن المعقولية الروحية، ونتيجة لذلك لا بد أن يحصل هذا التمزق والتفكك الرهيب في كيان الليبرالية الأوروبية وشموليتها الاقتصادية، وبعد أن تفلتت روابط المجتمع الأوروبي الإنسانية .