الحسن بن طلال

في معرض حديثي إلى طلاب أجانب حول الحوار بين معتنقي الأديان المختلفة، قمت بطرح مجموعة من الأسئلة، والتي كانت تقدم مبادئ مستوحاة من ديانات سماوية وغير سماوية مختلفة، وطلبت منهم أن يسموا الدين الذي ينص على تلك المبادئ. ولعل المفارقة في هذه الحادثة تتلخص في كمّ الإجابات الخاطئة التي قدمها هؤلاء الخاضعون للاختبار، فقد التبست عليهم المبادئ ولم يعرفوا مصدرها الحقيقي، ببساطة لأنها موجودة في دينهم كما هي موجودة في أديان الآخرين.

على النحو ذاته، أعتقد أننا نخطئ أيضاً عندما نصب جهودنا في الندوات والحوارات التي تتناول الحوار بين معتنقي الأديان على بيان نقاط الالتقاء وأوجه الاختلاف، بينما لا أحسب أننا في حاجة لأكثر من مبادئ مشتركة بسيطة لتحقيق العيش المشترك، مثل النص على احترام الجار ومعاملته بالحسنى، فما دام النص موجوداً في ديانتي وديانة الآخرين، إذن نحن نمتلك الضمانة التي تؤمن لنا العيش المشترك والسلم الأهلي المنشود.

انه بمثابة نداء يوقظ أصحاب الضمائر الحية وينبذ الفتنة والعنصرية والتعصب أياً كان مصدرها، ففي هذه الأوقات بالذات، نحتاج إلى وقفة جدية لاستعادة القيم الإنسانية المشتركة التي تجمعنا. فلنتأمل للحظة في الوضع الراهن، فإذا كان أتباع الديانات المختلفة السماوية وغير السماوية يشتركون بالكثير، فبالتأكيد هناك العديد من القواسم المشتركة أيضاً بين أبناء الطوائف المتعددة للدين الواحد وأبناء الوطن الواحد. لقد أخطأنا، بلا شك، عندما حسمنا موقفنا من الحراك العربي في كل دولة وفقاً لهواجس طائفية أو حسابات ضيقة ولم نستطع أن نحتفل بالحرية والمساواة والعدالة التي تنادي بها المجتمعات العربية.

لا يمكن لأي طرف اليوم أن يغض البصر عن مطالب المجتمعات، والتي خرجت الناس تعبر عنها بصراحة في مناطق مختلفة، ويتصرف وكأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تسير على ما يرام، فالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج باتت تدرك أن العلاقة التي كانت سائدة في السابق بين الحاكم والمحكوم لم تعد صالحة للمرحلة التي تلي الربيع العربي، بل إن إصلاحها وإعادة تعريفها وتأطيرها باتت ضرورة قصوى اليوم لضمان انتقال منطقتنا إلى مصاف الدول الديموقراطية أسوة بغيرنا من دول أوروبا الشرقية وغيرها التي عانت من الاستبداد وغياب الحرية ثم وجدت طريقها إلى الديموقراطية.

إن هذا الانتقال بالتحديد هو ما ألهم فكرة الميثاق الاجتماعي العربي، وجعل من وجوب إخراجه إلى حيز الوجود حاجة ملحة اليوم في ضوء التطورات الجارية. تقوم فكرة الميثاق الاجتماعي المقترح على محاولة إيجاد تلك العلاقة السليمة والديموقراطية بين الحاكم والمحكوم والتي تتطلع إليها شعوب نهضت من أجل المطالبة بالتغيير. يطرح الميثاق، والذي لا بد أن يكون وطني المنشأ ويعبر عن إرادة عربية أصيلة لا تنبع إلا من منطقتنا، قواعد تنظم العلاقة بين أركان الدولة وتسمح بتغيير الحاكم دورياً وتلزم الجميع باحترام حقوق الإنسان الأساسية والحريات بما يضمن لنا المضي قدماً وعدم العودة إلى عهود من القهر عانى فيها الأفراد وفقدوا الشعور بكرامتهم الإنسانية.

أحسب أن المطالبين بالحرية اليوم في مصر وتونس وسورية واليمن وغيرها من البقاع العربية يرغبون في إيجاد تلك الوثيقة التي تحمي مطالبهم على المدى البعيد وتطمئنهم إلى أن جهودهم وأرواحهم لن تذهب سدى، فحراكهم يحقق المطالب على المدى القصير، ولكن الميثاق الاجتماعي الذي يناسب شكل المنطقة الجديد ووثيقة الحقوق الأساسية والمسؤوليات هي التي تحمي الحراك من العودة إلى نقطة الصفر.

وأحسب أن وثيقة جامعة تتحدث باسم الشعوب العربية وتعترف بحقها في الحرية والكرامة الإنسانية والعيش الكريم سوف تكون من أهم إنجازات الربيع العربي والتي سيوثقها التاريخ للأجيال القادمة التي نأمل بأن ترى التزاماً جدياً بهذه الحقوق والمسؤوليات من قبل الجميع. وحتى لا تكون هذه المقترحات شبيهة بما سبقها من مقترحات لم يكتب لها النور وبقيت في الأدراج لعقود حتى أصبحت قراراتنا مدعاة تندر وسخرية، فإنني أعتقد أن علينا أيضاً إنشاء المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ ما جاء في الميثاق والوثيقة ومراقبة أدائنا في مجال حقوق الإنسان والحريات.

إذا كانت ستراسبورغ تحتضن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وكوستاريكا تحتضن محكمة الأميركيتين لحقوق الإنسان، وتستضيف تنزانيا المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان، فمتى يحين الموعد وتحتضن مدينة عربية المحكمة العربية لحقوق الإنسان؟ أعتقد جازماً أن الموعد قد حان، خصوصاً ونحن نشهد مئات الألوف من المواطنين العرب الذين خرجوا إلى الشارع بسبب غياب مؤسسة مستقلة يملكون حق التظلم لديها واللجوء إليها في حال انتهاك حقوقهم. من هنا، فإن إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان يأتي في إطار جهود إيجاد وتفعيل ميثاق اجتماعي ووثيقة حقوقية تصنع مستقبل أجيال تتوق إلى الحرية والكرامة والعدالة. وفي هذا الصدد، لا بد لنا من التأكيد بأننا سنخسر الرهان إن بقينا نتحدث عن الحقوق ونسينا ثقافة المسؤوليات، فعندما غادر ألكسندر سولجنيتسين الاتحاد السوفياتي السابق، روى أنه خرج من دولة يتحدث فيها الكل عن الحقوق، ثم عندما وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية، وجد النقيض فقد كان الجميع يتحدث عن المسؤوليات، وتساءل حينها إن كان هناك نهج يجمع بين المسؤوليات والحقوق، فلنقم نحن اليوم ونخلق ذلك النهج الذي يجمع بين المسؤوليات والحقوق على النحو الذي يحقق العدالة للجميع في الوطن العربي.

كما تستحق منا أوطاننا أن ننشئ الجامعة العربية لحقوق الإنسان، فنحن اليوم أمام أكاديميات تطلق على نفسها أسماء من قبيل laquo;أكاديميات التغييرraquo; وتقدم نفسها على أنها راعية التغيير في العالم العربي حيث تسوق لنا laquo;الخطوات المطلوبة لإسقاط حكوماتناraquo;، بينما لا نملك نحن مؤسسة عربية أصيلة تقع في قلب العالم العربي وتقاوم ثقافة laquo;التلقيraquo; لتكون هي الأكاديمية والجامعة التي تخلق أجيالاً عربية مؤمنة بثقافة حقوق الإنسان. لا أحسب أن ما ينقصنا هي الأموال المطلوبة لإنجاز هكذا مهمة، بل نحن في الغالب بحاجة إلى إرادة حقيقية ورؤية واقعية لأولويات شعوبنا وليس أولويات لا تلقى تجاوباً في شارع عربي يهاجر منه مئات الآلاف سنوياً ويسقط فيه المئات من الضحايا طلباً للحرية وليس لأولويات باهتة واستثمارات لا تعني للمجتمعات شيئاً.

بالتأكيد، فإن لدينا العديد من المنظمات الحقوقية العربية التي تعمل في المنطقة، ولكننا لا نرى دوراً فاعلاً لهذه المنظمات ولا نجد لها موقفاً حازماً من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، حيث لا تخرج هذه المؤسسات في العادة عن دائرة laquo;التلقيraquo; هي الأخرى، ولا زلنا غير قادرين على الحد من الثغرات القانونية وغيرها من العوائق التي تسمح لمرتكبي المخالفات بالإفلات من العقاب تحت ذرائع مختلفة.

في الواقع، يؤسفني أيضاً أن الناشطة اليمنية توكل كرمان وجدت جائزة عالمية بثقل جائزة نوبل للسلام لتكرمها، ولم تجد جائزة عربية تعترف بجرأتها ونضالها من أجل مجتمعها، وهي ليست الوحيدة بل إن مئات الناشطين الحقوقيين العرب لم يجدوا جائزة عربية تكرمهم. على الرغم من أننا نقدم عدداً من الجوائز في المنطقة، إلا أنها لا تتمتع بأي ثقل ولا تحظى بتغطية إعلامية كتلك التي تحظى بها الجوائز العالمية، وأما في مرحلة ما بعد الربيع العربي، فقد آن الأوان أيضاً لأن laquo;يكرم النبي في وطنهraquo;.

خلاصة القول هي أننا اليوم بحاجة إلى كل ما يؤسس لدولة القانون والمؤسسات، وكل ما يحقق المساواة للجميع بغض النظر عن الطوائف والإثنيات وغيرها من الفوارق الاجتماعية. نحن في حاجة إلى ميثاق حقيقي لا يشبه أياً من الوثائق والقرارات السابقة التي تلتف على المطالب ولا تدعمها بكل ما أوتيت من قوة. كما آن الأوان لإزالة القناع عن الدين، فنحن لا نقبل بالتطرف أياً كان مصدره، وفي الوقت الذي تهدم فيه الكنائس، كان العديد من الكنائس الأخرى قيد الإنشاء وقد شاركت شخصياً في زيارة الكنائس التي بنيت مؤخراً. وليس أدل على أن الإسلام الحقيقي يرفض التعصب من دعوة الأزهر الشريف إلى إعادة بناء الكنيسة التي تعرضت للهجوم في الإسكندرية، ودعوته أيضاً إلى مبادرة تؤيد الدولة الوطنية الدستورية الحديثة التي تحترم التعددية.

لا أمل من التكرار والقول مجدداً بأننا جميعاً نحمل مسؤوليات جمة تجاه أنفسنا وتجاه مجتمعاتنا، فإننا مستخلفون في الأرض، وقد زالت الغشاوة اليوم وعلينا أن نكون أهلاً للمسؤولية.

* مؤسس ورئيس منتدى laquo;الفكر العربيraquo;