مشاري الذايدي


منذ أن تبينت هشاشة التكوين الثقافي والوعي بفكرة المدنية في المجتمعات العربية، بفعل نتائج الانتخابات التي جلبت أبناء التيار الديني للحكم، والسؤال لا يتوقف عن أين ذهبت جهود نحو قرن من الزمان للثقافة العربية؟

هل تبخرت جهود التنمية التعليمية والتربوية والاتصال بثقافات العالم، وترسيخ قيم الفن والجمال والتسامح وتكريس فكرة المواطنة والدولة؟

هل ذهبت كل هذه الجهود هباء منثورا عندما أفسح، لأول مرة، بشكل مباشر ودون كوابح، للمجتمعات العربية أن تعبر عن laquo;أشواقهاraquo; الحقيقية، ونموذجها الأمثل للحكم الرشيد؟ ليصل إلى الحكم حزب النور وحزب محمد بديع، والغنوشي، ومن لف لفهم ربما، مثل الزنداني في اليمن لاحقا؟

هل كنا كعرب نعيش خدعة الدولة العربية والحداثة العربية طيلة العقود الماضية منذ رحيل المستعمرين، واستقلال وقيام الدول العربية، على مدد متفاوتة؟

أين الأفغاني والطهطاوي ولطفي السيد وطلعت حرب وطه حسين وقاسم أمين، في مصر، وخير الدين التونسي والثعالبي والطاهر حداد والطاهر بن عاشور وبورقيبة وهشام جعيط في تونس؟

كثير من laquo;المثقفينraquo; في مصر وتونس وبقية البلدان العربية، عقدت ألسنتهم الدهشة وتملكتهم الحيرة عندما اختبروا بالملموس حقيقة وزنهم الاجتماعي والسياسي، وعمق تأثيرهم في المجتمعات العربية.

كانوا كالزوج المخدوع الذي استيقظ بعد سنين عدد، على غفلته ووهمه. بعضهم صرح بحيرته وحسرته، وبعضهم حاول تلطيف الهزيمة بمحاولة التخفيف منها، إما بامتداح الديمقراطية وأن هذه مجرد جولة عابرة، أو بالقول إن المجتمعات العربية واعية جدا وهي فقط تريد تجريب الإسلاميين وإفقادهم حجة الضحية الخالدة التي حرمت من الحكم والسلطة (طبعا هذا وهم كبير يكرره كثيرون حول أن الإسلاميين لم يجربوا السلطة والحكم في العالم العربي).

لكن الحقيقة الساطعة هي أن هناك حالة انحسار لمفاهيم المدنية والدولة القطرية الحديثة المؤسسة والراعية للعقد الاجتماعي العلماني بين مكونات المجتمع، بعيدا عن الفرز الطائفي أو التجييش الديني أو النعرة القومية والشوفينية.

هذا المسار فشل في العالم العربي لصالح أطروحات موغلة في الحنين التاريخي الديني، والمسطرة تتراوح عندنا من نموذج طالبان وحماس في غزة إلى نموذج البشير ونجاد وخامنئي في إيران، مع فروق طفيفة هنا أو هناك، أما أردوغان تركيا فحالة خاصة لا يقاس عليها، إضافة إلى أنها حالة مفتوحة أصلا لم تصل إلى ضفافها النهائية!

بكل حال عاد الجدل مجددا حول دور المثقف العربي، في السابق واللاحق، وما هو المطلوب منه، ومن هو المثقف العربي أساسا؟

أتذكر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 أن الأمير خالد الفيصل، رئيس مؤسسة الفكر العربي، ومن أنابه من المثقفين العرب الذين اجتمعوا في مؤتمر المؤسسة في بيروت، قد قرروا أن هناك حاجة ماسة لقمة عربية ثقافية على غرار القمة الاقتصادية، لأن: laquo;الأزمة الثقافية ليست أقل خطورة على المجتمع العربي وإن اختلفت مظاهرها وتباينت آثارها وانعكاساتهاraquo;، حسب خطاب الأمير خالد لأمين الجامعة العربية عمرو موسى بهذا الخصوص.

ربما تبدو هذه الدعوة مفرطة في تفاؤلها بوجود رغبة حقيقية لدى الدول العربية في ترقية المجال الثقافي وتطوير الثقافة العربية وبحث مشكلاتها، كما أنها تفترض أن الدول العربية تولي المسألة الثقافية كل هذه الأهمية للدرجة التي تستدعي تخصيص مؤتمر قمة لها.

لا خلاف في أهمية الشأن الثقافي، وفي رداءة الحال العربية في ما يتصل بهموم وشجون الثقافة، بعيدا عن الجدل العريض والنقاش المستفيض حول معضلة المصطلحات والأطر الحاصرة لمعنى الثقافة والمثقف، والنقاش، بل العراك، حول طبيعة دور المثقف العربي في الشأن العام، وطبيعة علاقته بالسلطة، وأبعد من ذلك حقيقة دوره هو، كمثقف صانع أو مروج للمقولات والمفاهيم السياسية، دوره في إيصال الشعوب العربية إلى ما وصلت إليه من مشكلات وانحدار، لأن العناوين الأساسية للثقافة العربية في المرحلة الماضية وربما الحالية، وهي: القومية العربية، واليسار، والمثقفون الإسلاميون، كانت هي السند الفكري والدعائي الذي أوصل الضباط القوميين، أو اليساريين أو الإسلاميين (ليبيا والسودان واليمن الجنوبي مثالا) إلى الحكم وتعطيل التنمية الحقيقية، للدرجة التي تجعل المثقفين العرب يجتمعون الآن في بيروت ليطالبوا القادة بتخصيص قمة تبحث مشكلة الثقافة العربية؟

هؤلاء المثقفون هم من صنع المشكلة وهم من يجتمع ليشتكي منها. ميشال عفلق وزكي الأرسوزي وأكرم الحوراني وحسنين هيكل وساطع الحصري وعزمي بشارة وأنطون سعادة، أعني كل من صنع السياسة من المثقفين في العالم العربي.. وغيرهم من نخب الثقافة العربية التي كونت الوعي السياسي السالف، هذا الوعي الذي قامت عليه نظم حكم عربية.

هؤلاء هم مثقفو العرب الساسة، وهنا يصبح السؤال: هل المثقف العربي هو الحل أم هو المشكلة؟

نحن نحسن الكلام laquo;الجبهويraquo; الكبير عن المقاومة والخزان الحضاري الممانع للأمة، وكشف الخطط والألاعيب التي تديرها الأمم لحصارنا وإضعافنا، ولكن قلة من مثقفينا العرب من اشتغل على عيوب المجتمعات العربية نفسها، وتصدى لمعركة التنوير الديني ومحاربة العلل الاجتماعية الحقيقية، وأخذ مواقف حقيقية لمواجهة المجتمعات العربية بجوهر تخلفها. كما فعل من قبل طه حسين وقاسم أمين والكواكبي، مثلا، نعم هناك من دخل معارك مع بعض الأنظمة العربية، إما متحالفا مع بعض التيارات الجماهيرية أو من منفاه في بلاد الغرب، وقلة، مثل رياض الترك في سوريا، أخذ المعركة على عاتقه مع النظام من داخل أسوار القمع. وهذه مواقف تستحق الإشادة والإعجاب الأخلاقي الكبير بلا شك.

لكن السؤال أخطر حينما نبحث عمن قاد معارك اجتماعية وفكرية ضد عقول ومكونات التخلف في المجتمعات العربية نفسها: حول المرأة، والطائفية، وفصل السلطات فصلا صارما، وتطوير وتحديث الذخيرة الفقهية، حتى تصلح لنوازل عصرنا، بل وتطوير الخطاب الحاكم للتفقه نفسه، كما صنع الأوائل بكل جرأة وانطلاق.

لا أحد، إلا أسماء مفردة، تجرأ على مواجهة الذات العربية الصائغة لمجمل الوعي الجمعي العام.

على العكس نجد من كثير من نجوم الثقافة العرب اليوم مداورة ومراوغة، خصوصا بعد نتائج الربيع العربي! والتفافا على المنعطفات الحادة، هربا من محرقة الجماهير، ومن يحرك هذه الجماهير ويعزف على أوتار الوجدان الديني العام.

لذلك أصبح دور من يسمون بالمثقفين في عالمنا العربي دور مزين الحفلة، ومجرد نكهة عديمة التأثير على المائدة الكبيرة، المثقف العربي الخالي من معارك الوعي الحقيقية، أو الحافر في صخور التراث وطبقات العقل الحاكم، مجرد لون باهت، وصوت صاخب، لكنه بلا فصاحة، أو هو laquo;لزوم ما لا يلزمraquo;.