عبد المنعم سعيد

هل تكون الذكرى الأولى للثورة المصرية موعدا لبداية جديدة للشعب المصري تلتئم فيها الجروح، ويجري فيها الاستشفاء من آلام، وتحدث فيها المصالحة مع الماضي بحلوه ومره والعمل على أن يكون المستقبل أفضل مما كان؛ أم أن الموعد سيكون بداية لثورة أخرى يستكمل فيها ما لم يتحقق في نظر الثوار وربما ما هو أكثر لتصحيح ما انحرف وذهب إلى جهات لم يظنها أو ينتظرها أحد؟ هذا وذاك من التوجهات له أنصاره الذين يحشدون حشودهم ويعدون للأمر عدته بينما يطل من شاشات الفضائيات من يفضي ويعبئ ويطلب من المجتمع المصري أن يذهب مذهبه. وبينما تجد الشرعية مكانها بين أنصار الاتجاه الأول، حيث يجتمع مجلس الشعب المنتخب قبل يومين من ذكرى الثورة؛ فإن أنصار الاتجاه الثاني يسيرون إلى حيث ساروا طوال المرحلة الماضية وراء ما يسمى laquo;الشرعية الثوريةraquo; وكأن لا انتخابات جرت، ولا أحزاب فازت، ولا خطوة على طريق جدول الأعمال تم تحقيقها.

إنها الدولة والثورة مرة أخرى، وقد وقفت كلتاهما في المواجهة كما جرى منذ عام، ولكن البلاد هذه المرة ليست كما كانت، فلا الأطراف بقيت على حالها، ولا القواعد سارت كما كانت تسير. وربما جسد الوضع كله أن مطلب الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء بالتنسيق مع كافة القوى للاحتفال بيوم الثورة قوبل بالرفض من laquo;القوى الثوريةraquo; لأنها ببساطة لا تريد laquo;احتفالاraquo; بالثورة ولكن ثورة أخرى بدأت التحضير لها بمسيرات في أحياء المدن تصل إلى قمتها في اليوم الموعود، وفي ميدان التحرير الذي دارت فيه وحوله أعظم الأحداث.

ولكن ما تغير خلال عام يصعب تجاهله، فقد خرجت من laquo;قوى الثورةraquo; جماعات وضعت أقدامها على أعتاب الدولة ليس من باب المعارضة والاحتجاج، وإنما من باب الحكم والتشريع. خرجت القوى الإسلامية المختلفة وقد صارت الآن أحزابا يشار لها بالبنان وهي في مجموعها قد حصلت على 70 في المائة من مقاعد مجلس الشعب، ولن يكون مجلس الشورى مختلفا كثيرا. ومع هؤلاء فإن شريحة لا بأس بها من جنود الثورة السابقين دخلت العملية الانتخابية من خلال أحزاب جديدة، فإن هذه، مع خيبة أملها في النتيجة، ترى أنه هكذا تكون العملية الديمقراطية حيث laquo;المعارضةraquo; تمثل ذلك الجزء من النظام الذي يشكل بديلا للسلطة القائمة التي يظن - كما هو الحال مع كل أشكال المعارضة - أنه لا يوجد لديها الإجابات الصحيحة على الأمراض المصرية المستعصية، والتي باتت عصية أكثر بعد عام من الثورة جرت فيه 23 مليونية كبرى، وتدهور الاقتصاد، ونزل الاحتياطي القومي من 43 (ثلاثة وأربعين) مليار دولار في يناير (كانون الثاني) 2011 إلى 18 مليارا مع يناير 2012. أضف إلى هؤلاء جماعة جديدة برزت على السطح مؤخرا ذاع اسمها المهذب laquo;الأغلبية الصامتةraquo; أو من عرفوا على الطريقة المصرية باسم laquo;حزب الكنبةraquo; الذي يجلس ويشاهد الأحداث من شاشات التلفزيون. هذا الحزب الذي بات له مقر في ميدان العباسية ليس له اعتراض على ثورة يناير قبل عام، ولكن به حنين وشوق ورغبة عارمة في عودة الاستقرار ليس تحت رايات النظام القديم الذي لم يعلن أحد عن المطالبة بعودته، ولكن تحت بيارق تأخذ مصر إلى الأمام ولا تدفعها إلى الخلف. الطريق هنا واضح يجري فيه استكمال باقي العمليات الانتقالية بحيث تنتهي قبل الأول من يوليو (تموز) القادم، بحيث يكون هناك رئيس مدني منتخب، وتتمتع البلاد بدستور جديد، ويعود الجيش إلى ثكناته، وينتظر أن يعود الثوار إلى منازلهم، ومن بعدها تعود الأيام الطيبة إلى سيرتها الأولى.

هنا، فإن الاحتفال بيوم الثورة هو احتفال بيوم وتاريخ يضاف إلى أيام وتواريخ أخرى ولكنه يختلف عنها بالحداثة وذكريات مفعمة بالفخر والحماس لأيام أفضل قادمة. ولكن ذلك ليس مقبولا من ثوار آخرين ربما جسدتهم جماعة 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين، وائتلافات ثورية على شاكلتها كانت هي التي أشعلت الثورة ولكنها لم تكن لتقوم بها، ويسقط الشهداء من بين صفوفها، لكي ترثها جماعة الإخوان المسلمين أو تسود أفكار اقتصادية واجتماعية هي من وجهة نظرهم لا تختلف كثيرا عما كان مطروحا من قِبَل الحزب الوطني الديمقراطي من قبل. فالتأكيد على معاهدة السلام مع إسرائيل يجري كما كان، والتأكيد على أن اقتصاد السوق لا يزال هو المنهج الاقتصادي للدولة، وقبل وبعد ذلك كله فإن تسليم سدنة النظام القديم للعدالة وسيادة القانون هو في حقيقته تسليم بأحكام مخففة وربما البراءة كما حدث بالفعل في قضايا إطلاق الرصاص على المتظاهرين حيث كان على القاضي أن يجد الأدلة والبراهين على أن استشهاد ثائر جرى نتيجة إطلاق الرصاص من قبل شخص بعينه، ومن البندقية التي يستخدمها، ومن نوعية الرصاص المعتمد لديه ووجد في جسد المتوفى. مثل ذلك من الناحية العملية مستحيل، ومثيله إثبات أن مبارك أصدر أوامر مباشرة بالقتل، وعلى شاكلته ربما تجري محاكمات أخرى. ولذا فإن laquo;الحل الثوريraquo; لا يكون إلا بمحاكمات ثورية يقرر فيها الثوار، دون دفاع أو براهين أو إثبات، المذنب والمدان كما جرى في ثورات أخرى.

مثل ذلك لم يعد مقبولا من المعدة المصرية خاصة بعد الانتخابات الأخيرة وظهور أول المؤسسات الشرعية في البلاد والتي تستطيع حقا أن تتحدث باسم الشعب، وهذه على الأرجح سوف تحرص على أن تكون أول ممارساتها تخص يوم عيد الثورة الذي ربما لن يشهد مواجهة بين الثورة والدولة بقدر ما هو مواجهة بين الشرعية الوليدة وأنصار الثورة الدائمة الذين يعولون على شعب آخر يخرج لكي يبدأ الثورة الجديدة. هذا الشعب الآخر هو فقراء المصريين، وسكان العشوائيات؛ فليس سرا على أحد أن ثورة يناير كلها قامت على أكتاف الطبقة الوسطى والشباب المتعلم الذي استفاد من ثورة التكنولوجيا والاتصال بالعالم بالتعاون مع أحزاب المعارضة التقليدية للنظام المباركي. ولأن هذه الأحزاب تحت قيادة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة دخلت النظام والدولة مرة أخرى من بوابة الانتخابات، فإن البديل لها سوف يأتي من نحو 40 في المائة من المصريين الذين لم يشاركوا في الانتخابات، ومن هؤلاء الذين لا يبدو أنهم سيكون لهم نصيب من الثروة القومية في القريب العاجل.

ولكن مشكلة الثوار سوف تبقى على حالها، ورغم الشغف بالشاشات التلفزيونية والكلمات الحماسية وأهازيج الملاحم الثورية والمسيرات ذات الشعارات التي تطالب المجلس العسكري بالرحيل وإعادة ترتيب أوراق نقل السلطة؛ فإن الحقيقة أن الشقة بينهم ولغتهم والجماهير التي يريدون تعبئتها أكبر بكثير مما يتصورون. وعلى الأرجح أنهم سوف يواجهون نفس النتيجة التي واجهوها في استفتاء 19 مارس (آذار) الماضي، وفي الانتخابات التشريعية التي جرت توا، فحقيقة الأمر أن laquo;الدولة المصريةraquo; يمكن أن تغير قياداتها، ولكن أحدا لا يستطيع أبدا دفنها.