مصطفى الغزاوي

تحت عنوان quot;الفن ميدانquot; تعقد فعاليات فنية متعددة تبدأ بعرض لأحداث الميدان وأيضا جملة عروض تحت عنوان quot;كاذبونquot; تعرض للمفارقات بين أقوال أعضاء المجلس العسكري وبين الأفعال المعاكسة لهذه الأقوال، ويعقب العرض عرضا موسيقيا لفرقة quot;إسكندريلاquot;، وهي مجموعة من الشباب غنى أغنيات الثورة قبل وأثناء وبعد الثورة.
حضرت مصادفة فعالية لهم في ميدان عابدين، وعادت بي الذاكرة إلى ما شهده ميدان عابدين على مر عقود متتالية، فقد كان ميدان عابدين هو ميدان الثورة، فمنذ 130 عاما واجه أحمد عرابي الخديوي توفيق وهو على جواده، والخديوي إلى جواره قناصل الدول الأجنبية ليقول كلمته الشهيرة: لقد خلقنا الله أحرارا ولن نستعبد بعد اليوم. وذات الميدان احتلته دبابات الجيش المصري في يوليو 1952 وهي تحاصر القصر، وكان قصر عابدين هو قصر الحكم، وخرج الضباط الأحرار يومها وكانوا في سن الشباب وليس من أكل الدهر عليهم وشرب، خرجوا من شرفة القصر ليعلنوا مبادئ الثورة الستة.
هدمت ثورة يوليو سور القصر الخلفي، وأحالت حدائق القصر إلى مركز للشباب، وأعاد السادات بناء السور بعد توليه الرئاسة، كان هدم السور عنوانا لانحياز ثورة يوليو وإعادة بنائه عنوانا للانقلاب على الثورة.
تذكرت كتابات عبدالرحمن الأبنودي quot;وجوه على الشطquot; وهو يصور بقلمه وكلماته الحياة وأشخاصها على شاطئ القناة في منطقة السويس في أعقاب عدوان 1967 وأثناء حرب الاستنزاف، وتصورت أنه لو كان بعافيته لمشي بين الشباب الذي يتجمع ليسمع ويغني ويهتف، ولكتب quot;وجوه على الإسفلتquot; أو quot;وجوه الميدانquot;.
وجوه مصرية شابة نضرة تراها العين ولا يخطئ الوجدان الإحساس بهم، وعندما تغني quot;إسكندريلاquot; أغنية quot;اتجمع العشاق في سجن القلعة .. اتجمع العشاق في باب الخلقquot; والتي مضى عليها قرابة نصف القرن، تجد الشباب يرددها وكأنهم عاشوا تفاصيلها، بينما سجن القلعة تحول إلى متحف، يغنونها بكل حواسهم ومشاعرهم وكأنها تجربتهم، وليست تجربة سبقتهم بخمسة عقود كاملة.
استمعت إليها معهم مبتسما، وكأني بنغم الثورة لا يموت، بل مازال حيا بيننا ينادي حي على الفلاح.
تذكرت مقدم مهندس كان زميلا باللواء الذي خدمت به، كان كلما التقاني بادرني بالبيت الأول منها، لنغنيها معا، وتذكرت مدرجات الجامعة بعد 1967 وهي تموج بموجات من الأغنيات الوطنية مع الشيخ إمام وأولاد الأرض ومحمد حمام وكانت هذه الأغنية في مقدمتها.
تيار الثورة مستمر عبر الأجيال، يخرج من القرى والمصانع والمدارس والجامعات ومن الطبقة المتوسطة وأبنائها هؤلاء الذين تفاعلوا مع أطفال الشوارع أثناء اعتصام مجلس الوزراء واخرجوا منهم مكنون الذكاء ليبدعوا فنيا ويتعلموا النحت والرسم ويصبحوا من شباب الثورة خلال زمن محدود، وليبدلوا الضياع بحلم جديد يعيشوه ويدافعوا عنه علهم ينالوه.
في الميدان الكل يحمل الكاميرات والتليفون المحمول يسجلون لبعضهم البعض هذه اللحظات، فلا أحد منهم يعلم متى سيفارقون بعضهم بعضا إلى السماء، ولكنهم يغنون وكأن الغناء هو وقود الثورة، وهو وقودها بالفعل.
تبدو الثورة في جينات التكوين المصري، فمصر في رباط منذ أن كتب التاريخ، والثورات والحركات الثورية مستمرة منذ توحيد القطرين الشمالي والجنوبي علي يد quot;ميناquot; حتى اللحظة التي نحياها. الثورة في الشعب المصري كحبة قمح غرست في طينها ورواها النيل، فهي تنبت سنابل ذهبية، لتعاود من جديد دورتها، تحفظ الحياة وتطعمها بأعداد مضاعفة من الحب. المصريون يتوارثون أغنيات الثور كحبة القمح التي تحافظ على جيناتها، وكل جيل يردد أغنيات من سبقوه من أجيال، فكل الأغنيات تحمل ذات الهموم، من طغيان وظلم واستبداد، وكل الأغنيات أداة توصيف لاذع للحال، وهي ذاتها مفتاح حشد وشحن وتحريض، لتنتهي الأغنيات بالأمل والطريق إليه.
تتعرض الثورة في الفترة القادمة لأوقات فارقة، الكل يتحدث عن 25 يناير 2012، وكل يغني على ليلاه، وليست كل الألحان بنغمات الثورة، ثم تتوالى الأسئلة كيف سيكون حال لجنة المائة التي اخترعوها لوضع الدستور؟ ثم ماهية الدستور القادم، وأيضا إلى أين سيمضي انتخاب الرئيس؟ العشوائية أصابت العقول والأفعال والخيارات والكل يتحدث عن ذاته وليس عن مصر الوطن والشعب والثورة، وآخر ما كنا ننتظره أن يتولى quot;العشوائيونquot; أمرنا ولن نقول الجهلة ولا الخونة ولا المرابين السياسيين.
يبدو أن تعميد المجلس العسكري العشوائي لفكرة مجلس قومي يناقش ميزانية القوات المسلحة، هو عشوائية تتسم بالجهالة، فليست الأمور الجادة هكذا تطرح ويتم تناولها كأنها المضمون بينما هي أداة لرؤية متكاملة لعلاقة الجيش والدولة، وهذا التناول هو استمرار لنهج الاستجابة لحاجات لدى المجلس ولدى أدواته في المشهد السياسي أكثر منها حاجة لاستقرار الدولة المصرية التي يريدها الشعب ويحتاجها.
مصر في حالة فوضى عارمة في الخيارات السياسية بقدر ما تعم الفوضى الحركة في شوارعها.
إنهم يفككون الدولة إلى قطع فسيفساء صغيرة لمحاولة إعادة تشكيل صورة المجلس العسكري والتي استحالت إلى صورة quot;دوريان جرايquot; التي شكلتها كل موبقاته وجرائمه.
انتقلنا من الدستور أولا أم الانتخابات أولا، إلى الدستور أولا أم الرئيس أولا، ويطل البشري مهندس الانقلاب المستمر على الثورة ليعيد ترجيح الانتخابات قبل الدستور، دون إسهام بمدى حق كل الشعب في التوافق على دستور الأمة الذي ليس مجرد تعديل مادة تخص انتخاب الرئيس ولكنه رؤية تقنن النظام القادم بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس رؤية أغلبية اليوم التي يمكن أن تتحول إلى أقلية غدا، وهي التي تبادلت رسائل المحمول معلنة أنهم انتقموا لأنفسهم!
الدولة المصرية المفككة، وحكومات ما بعد الثورة العاجزة، والرئيس القادم من المجهول ولا يحمل غير نهج quot;صناعة الرئيسquot; دون مضمون، ومجلس عسكري يرى الشعب أنه لن يقبل برئيس من خارجه، كل هذا يجعل الريبة تتسلل إلى الشعب أن شيئا ما سيحدث في اللحظة الأخيرة خارج ما يرى.
يسود حديث الانتقام وأفعال تعود بمصر لأبعد من 14 قرنا إلى الوراء لزمن الجاهلية وأحاديث عن التجربة التركية غير آخذة في الاعتبار quot;الحالة المصريةquot;. يدعون علينا أن التجربة التركية هي مجرد اللحظة التي يشهدونها وبداياتها هي بدايات وعيهم بها، ولم يدركوا أنها تجربة استمرت القرن العشرين كله تتراكم خلالها الأفكار والأحداث وتتفاعل لتنتج مجتمع هو أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق.
إن تجارب الأمم غير قابلة للنقل، والثورات غير قابلة للتصدير، لكن حركة الأموال ومؤامرات لها مدارسها وأدواتها، تجمع بينهم quot;المصالح ومناطق النفوذquot;، إن ظهور اسم quot;دحلانquot; كداعم لتنظيم الجهاد الإسلامي في سيناء أمر يطرح سؤال الريبة، ما الذي جمعهم معا؟ ويتردد حديث إنه الممول الرئيسي للجهاد الإسلامي في سيناء وهو التنظيم الذي أرسل رسالة للأمن في العريش للاستسلام وتسليم سيناء إليه ليحكمها.
يحدث هذا والانتخابات quot;المرتجلةquot;ومؤامرة اقتناص الثورة في مصر على أشدها، في ذات الوقت الذي تشوهت فيه العقيدة القتالية للجيش المصري رغم أن الزي العسكري هو ذات الزي ومازالت الرتب العسكرية هي ذاتها، ولكن دون أن تعبر عن مضمون quot;الوطنية المصريةquot; أو ترفع إعلامها.
قد يكون مقبولا أن تواجه الثورة والشعب معا حركة مضادة للثورة من عناصر النظام السابق والمرتبطة معه بمصالحها، ولكن الانقلاب على الثورة هو معادلة لم تكن في الحسبان واستغرقت زمنا طويلا لتتكشف أبعادها لدى العديد من عناصر الثورة.
تحدث أحد قيادات الإخوان أن حزب الحرية والعدالة هو الجناح السياسي لجماعة الإخوان، تلك الجماعة المسكوت عن مبرر وجودها بعد أن حصل أعضاؤها على حزب سياسي، وإن كان حزب العدالة هو الجناح السياسي للجماعة، فما هي باقي الأجنحة التي لم يعلن عنها بعد؟
الخوف والريبة هما سمة العلاقة بين أطراف الأزمة والتهديد هو لغة الحوار بينهما. ولكن استمرار الثورة معلق بالأمل على حركة الشباب الذي لم ينس أغنيات الشعب للثورة طوال معاناته.
المؤسسة العسكرية ظلت ثلاثين عاما تحمي الانقلاب على الدستور، وهي اليوم تحمي حركة الاستيلاء على مصر والشعب والثورة بواسطة التنظيمات الدينية.
نحن مسلمون ومصر وطننا، والسؤال أي مصر يتحدثون عنها؟ أي مجتمع يريدونه؟ وأؤمن أن الإسلام ثورة في حد ذاته لتمكين الإنسان بالحرية من إعمار الأرض، ولم ين ثورة بإطلاق اللحى وتكفير الغير quot;فلا إكراه في الدين فقد تبين الرشد من الغيquot;.
سمح الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة لأن بها حاكما مسيحيا يسلم بوجود الله، ورأى الراهب بحتري قافلة فيها محمد الصبي وسأل عمه أن يعود به حماية له، فأين أنتم من هؤلاء؟ وبدأ محمد (ص) الفتوح للدعوة التي ما كان لها أن تستقر لولا بناء دولة العدل، وليس مجرد دولة الإحسان، عاهد محمد صلى الله عليه وسلم اليهود فخانوه، فلماذا تسقطون بندقية المقاومة الفلسطينية وتحيلونها إلى مشروع للإعمار والمقاولات.
فاقد الشيء لا يعطيه، الذي يرى الوطن حلبة صراع سياسي ويسقط مفهوم العدالة الاجتماعية ويرفع سيف التكفير ويستحل كل شيء وأي شيء للوصول إلى السلطة، يفتح أبواب الجحيم في مصر.
لا يصنع تاريخ الأمم حملة المباخر ولا يصنع تاريخها مؤامرات تحت عباءة الدين، فقد تجاوز العالم والمصريون والمسلمون السيطرة الكهنوتية على العقل تحت دعاوى التنظيمات بالدين كما تراه هي. استمرار لحملة لورانس العرب للإجهاض على الوجود العربي كله تحت دعاوى دينية مستحدثة.
تجاوز العالم أن يكون فرسان المعبد رغم وجود فرسان مالطا بيننا، أو جحافل تخرج من المساجد بعاطفة دون أن تدرك حقها في الحياة، وبعيدة عن صحيح الإسلام، تجاوز أن يكون هؤلاء هم صانعو الحياة، إنهم القاتلون الجدد، وأداة الدكتاتورية الدينية الجديدة في مصر.
إن نظرة على الوعي الشعبي بكل طوائفه في تونس الثورة، يحكم على التجربة المصرية بالفشل والخروج على الشعب.
ليس أمامنا سوى أن نشق طريقا ولو بالدم ثمنا للحرية الاجتماعية والسياسية وسط تضاريس تمحوا العقل وتعمل سياسية القطعان اعتقادا منها بإمكانية استبدال الوطن بجماعة أو مجلس أو أشخاص يقتلهم الشوق لكرسي الرئاسة ولو على أكتاف حاجات الشعب ومصالحه.
إن جماعات تقوم على تغييب العقل والإرادة تحت دعوى السمع والطاعة، تنتهي بالقطع إلى الانفجار الداخلي، لا كهنوت في الدين، ولا كهنة في السياسة، هكذا علمنا التاريخ.
ما يجري في مصر مقدمة لسيناريو أكثر عنفا حتى وإن بدا أنه بعيد ولن يطول الجميع.
حركة الواقع وجدلها والدم المسال فوق الإسفلت يقاوم كل محاولات إجهاض الثورة وغسيل المخ.
الشباب الذي يغني أغنيات الثورة ويحمل جيناتها المرية هو القادر على صناعة الغد إيمانا بربه ووطنه وحقه في الحياة.
وسيظل نغم الثورة أنشودة البقاء والحياة باقيا وسيمحون التاريخ في حركته كل من لا يحمل جيناته، فهو أصل التكوين المصري.