صلاح سليمان

عرف العالم حضارة مصر القديمة من خلال شواهد عديدة تجلت في أفرع مختلفة مثل هندسة البناء ومهارة الصناعة واختراع الكتابة الهيروغليفية القديمة، وكلها أشياء ما زالت تمثل دلائل وبراهين قائمة حتى الآن تحمل في طياتها علامات لحضارة ما زالت تفتن العالم وتحير العلماء والباحثين.
رغم أن الفراعنة كانت لهم إسهامات أدبية وفنية وثقافية عديدة إلا أن يد البحث لم تكشف الكثير عن هذه الكنوز، إكتفاءً بتمثال الكاتب المصري الشهير المحفوظ في المتحف المصري والذي يجسد صورة الاهتمام بالقراءة والكتابة في الحضارة الفرعونية القديمة، إضافة الى بعض الآلات الموسيقية التي عُثر عليها وبعض الرسوم الجدارية التي تمثل الواناً من الفنون منها الرقص والغناء على سبيل المثال.
إن أكثر الذين مثلوا الآدب الفرعوني شعراً وفلسفة هو الملك الفرعوني الشهير إخناتون، ذلك الزاهد المتعبد والفيلسوف المتأمل، الذي تعتبر أناشيده وأشعاره التي تركها نقوشاً على معابده في تل العمارنة وفي رموز مخطوطة بالهيروغليفية القديمة محفوظة على أوراق البردي على أنه أحد أهم مفكري العصر الفرعوني في مختلف حقبه.
إن أشعاره التي تركها كشفت عن خيال المصري القديم ومدى سعة أفقه في التطلع والتأمل في حياة الكون وكل ما يحيط بحياة البشر، لقد أشتهر إخناتون بخيال خصب وشاعرية متصوفة عميقة المعنى، خصبة الدلالة تبحث في مكنونات الكون عن سر هذا الوجود وهو أكثر ما أرقه في حياته ـ لهذا عندما إتخذ من آتون 'قرص الشمس' إلهاً تجلت عبقريته الشعرية في مجموعة الإنشودات التي ألفها في حب آتون، احدى أجمل تلك الإنشودات التي نظمها هي إنشودة حب آتون التي أصبحت علامة فارقة في فلسفة المصريين التي ارتبطت بوادي النيل منذ آلاف السنين لتحمل في طياتها معاني النزعة الدينية منذ ارتباط المصري بتلك الأرض.

إنشودة إخناتون

يقول إخناتون في إنشودته الجميلة :
'آتون يا أصل الحياة، كم أنت جميل في أفق السماء
بإشراقك تمتلئ الأرض بوهج سناك
أيها المتألق في علياء سمائك، وقد انقاد الكل لسلطانك وتربطهم بحبك.
على بعدك تملأ الأرض بأشعتك
ورغم ارتفاعك ترسم النهار بآثار أقدامك
عندما تتوارى في غرب الأفق
تمسي الدنيا في ظلام
إنه الموت
نيام الناس في بيوتهم، فلا يبصرون
وقد يسرق كل ما تحت رؤوسهم وهم لا يشعرون،
فإذا ما طلعت في الأفق انجلى الظلام وانتعشت الأشجار والنباتات
وصفقت الطيور بأجنحتها فوق المياه ورقصت الأغنام فأنت خالق الأرض
خالق الناس والماشية
بعثت نيلاً من السماء يسقط بعيداً يروي الحقول
أنت صانع الفصول، مبدع السماء العالية والحياة في إشراقك، والموت مع غروبك وقيامك حياة للعالمين'.
هذه هي الإنشودة التي كان يتغنى بها اخناتون وبأمثالها التي كان يستمتع بتأليفها، ومن بعده يقوم الكهنة بإعدادها للترانيم والتراتيل في معابد الأله الأوحد آتون في مدينة الشمس اخنياتون التي بناها الفرعون الفيلسوف في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
كان الدين في مصر القديمة وعبادة الإله أمراً مقدساً ،فكان لكل شيء إله، ولكل مكان إله وكان الإله 'راع' في نهاية الدولة القديمة ذات مكانة وشأن عظيم، غير أن تبدل العاصمة في عهد المملكة الوسطى وانتقالها الى طيبة رفع من شأن إلهها آمون، ومن ثم لم يكن هناك تفضيل لإله على آخر إلا بالدمج وتمازج الإلهين في إله واحد هو 'آمون رع' الذي بلغ الأوج في عهد المملكة الحديثة، وتمتعت معابده وكهنته بمخصصات وفيرة واسعة مكنت بعضا من هؤلاء الكهنة من التدخل في سلطة الفرعون.

عصور الازدهار في عصر الأسرة الثامنة عشرة

مع بزوغ عهد الملك تحتمس الثالث فخر الأسرة الثامنة عشرة في المملكة الحديثة بدأت عصور الازدهار في مصر القديمة، فهو الذي حارب ووسع البلاد ثم جاء من بعده امنحوتب الثالث فجنى ثمار هذه العظمة وبدأ عصره زاهراً وافراً بالثروة حتى تجلت فيه ابهة الفرعون ـ ونتيجة لذلك بنى لنفسه معبداً عظيماً في الجنوب عبده فيه الناس وأهل النوبة القديمة كالإله وبعد ان قضى جاء من بعده إبنه الشاب امنحوتب الرابع أو إخناتون الذي وجد ملكاً يمتد من أسيا متوغلاً في جنوب افريقيا، كما وجد نفسه وسط كهنة أقوياء يخدمون الإله أمون في قوة وثروة هائلة وسلطة واسعة.
حكم إخناتون البلاد مد ة 17 سنة مع زوجته الجميلة نفرتيتي في الفترة من 1369 الى أن توفي في العام 1336 قبل الميلاد، وفي بداية حكمه لاحظ أن الشعب من حوله يكره هذه العظمة وتلك الأبهة، فكان اذا ما تقدم أحد أفراد شعبه بين يديه قبل الأرض ساجداً ، وفي جنوب ملكه كان هناك معبدا يعبد الناس فيه اباه كما تٌعبد الآلهة المتعددة في كل مكان، فكان ذلك بداية التأمل وبداية التفكير الذي قاده الى الشك في قيمة كل الزيف الذي حوله وبدأ يسطر أناشيده التي عكست صفاء نفسه بل وبدأ الثورة الفكرية على كل ما هو حوله من زيف وانتقل الى الحقيقة ليعيش فيها حتى أنه ترك المثّالين يصنعون التماثيل في حرية وصدق تام حتى انهم أظهروا عيوبه الجسمية مخالفين في ذلك كل من سبقوهم.

آتون ' قرص الشمس' يلهب خيال إخناتون

كان إخناتون دائم التفكير في أنه لابد أن تكون لهذا الكون قوة تسيطر عليه، قوة صانعة وليست مصنوعة، تهب الحياة وتأخذها خالدة باقية هي أقوى وأقدر وأبهى من فرعون، قاده تفكيره الى قرص الشمس آتون وراح يكتب أناشيد رائعة الجمال في تلك الشمس الأبدية التي تنقل بأشعتها الكون من عالم السكون والظلمة الى دبيب الحياة والنور وملكت عليه مشاعره وتفكيره في عظمتها وجلالها وقدرتها المسيطرة حتى على فرعون العظيم وكان لزاما على عقله كعقل المفكر والفيلسوف في أن يتخذ القوة المسيطرة إلهاً يتعبد إليه ويتقرب منه هو وشعبه ونادى بقرص الشمس أتون الآلهة الأوحد سيد الأشياء وفرضه على شعبه وألغى كل العبادات الأخرى، بل ومسح الكثير من صور الألهة التي كان يذخر بها معبد حتشبسوت في الدير البحري وغُير اسمه ليتخذ اسم اخناتون ومعناها المخلص لأتون وهجر طيبة وبنى عاصمة لملكه سماها اخنياتون أي 'افق اتون في عام '1375 ' قبل الميلاد واقام المعابد الدينية الجديدة ونظم اناشيد بسيطة تشرح عقيدته في وحدانية الخالق.