غازي العريضي

في لبنان انقسام حاد حول كل شيء. يتعمّق يومياً أكثر فأكثر. ينحرف رموزه في خطابهم وحساباتهم ورهاناتهم نحو أقصى حدود التطرف في التفكير والتعبير تشعر أحياناً أنك عاجز عن التصرف والمبادرة إلى وقف مسلسل التحدي والتشهير والتوتير. وأخطر جوانب وأبعاد هذا الانقسام هو البعد المذهبي. والتحذير الدائم والمستمر منه، عنوان مواقف كثيرة تعبّر عن مخاوف كبيرة. البعد أو الخلاف، أو الصراع، أو التشنج السني الشيعي.

في سوريا أحداث مؤلمة دموية، يبدو أنها طويلة ومستمرة للأسف. رغم تمنيات quot;وتطميناتquot; فريقي الانقسام في لبنان، بأن نهايتها قريبة، وستكون لمصلحة تحليل وتفكير وحسابات كل منهما. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل منذ أشهر، ولن يحصل خلال أيام أو أسابيع، أو أشهر مقبلة.

الانقسام في لبنان حول ما يجري حاد جداً. بل يكاد كل شيء في الصراع السياسي في لبنان ينطلق أو يتمحور أو ينتظر ما سيجري في سوريا. طبعاً ما يجري هناك له انعكاس مباشر على الوضع في لبنان أكثر من أي بلد آخر. نظراً لخصوصية العلاقة بين البلدين والتواصل الجغرافي والديموجرافي والدور السوري في لبنان المباشر على مدى عقود من الزمن وغير المباشر من خلال التأثير الدائم بحكم التاريخ والواقع القائم والمعادلات السياسية. في لبنان اليوم، صراع وتحد ونقاش وحدة بين فريقين.

فريق يلتصق بالكامل بالنظام السوري، يتبنى وجهة نظره وتحليلاته ومعلوماته. يراهن على بقائه. يعتبر هذا البقاء محسوماً. وما يجري في سوريا مؤامرة أميركية إسرائيلية غربية إمبريالية خطيرة. وهذا الفريق اندفع بقوة متبنياً ومغتبطاً بما جرى في تونس ومصر، حيث quot;الثورةquot; هناك أطاحت أنظمة مرتبطة بالمخابرات الفرنسية الأميركية وإسرائيل. والشعوب ثارت ضدها. هذا الفريق اعتبر الثورة هناك ثورته. اليوم يقيم قيامته وثورته على تلك الثورة لأنه يرى عكس ما توقعه! بعض رموز هذا الفريق قال كلاماً لم يقله رموز النظام في سوريا. تجاوزوا ما تقوله القيادة السورية التي تحدثت مراراً عن أزمة طويلة قد تمتد أسابيع أو أشهراً أو سنوات. أما تلك الرموز في لبنان، فقد حددت منذ أشهر مواعيد شبه نهائية حاسمة ثابتة لحسم الأمور، ودعت الناس إلى التصرف على هذا الأساس.

فريق ثانٍ سّيرته منذ البداية العواطف التي طبعت كل المواقف. رهان وتوقع وقناعة بأن النظام ساقط. بل تصرف البعض على أساس أن السقوط حاصل خلال أسابيع وأن هذا الأمر سيقلب الموازين في المنطقة وفي لبنان بالتحديد، وبالتالي سيعيد بناء السلطة وتركيبها على قاعدة معادلة جديدة لا دور فيها ولا تأثير لسوريا الحالية.

كل النقاشات تدور إذاً في اليوميات والجزئيات والتفاصيل والاستراتيجيات حول ما يجري في سوريا. وهذا أمر له موقعه الطبيعي في السياسة نظراً لأهمية الموقع السوري. لكن السؤال الذي يُطرح، ومن الواجب أن يطرح على اللبنانيين من أنفسهم على أنفسهم ومن الآخرين عليهم. إذا كان الاهتمام بالحدث السوري استثنائياً إلى هذا الحد نظراً لما يمكن أن يحدث في لبنان فلماذا لا نرى من يناقش ويهتم ويقيّم السياسات على أساس مواجهة كل الاحتمالات والانعكاسات. وبالتالي لماذا لا يكون النقاش حول: ماذا سيجري في لبنان؟ كيف سيكون لبنان في ظل كل احتمال؟ ماذا سنفعل نحن؟ كيف سيترجم هذا الانقسام الحاد؟ هل سيكون صراع في لبنان؟ هل إذا وقع المحظور وتفاقم الصراع في سوريا وأخذ بعده المذهبي السُني - العلوي - سيتفاقم بعد الصراع السني- الشيعي في لبنان؟ ماذا إذا استمر تراجع الدولة في لبنان، وتقدم مواقع ومتاريس المذهبيات والحسابات الخاصة القريبة المدى الضيقة الأفق؟

يعني، لنفترض أن النظام في سوريا بقي. تجاوز الأزمة ولو بالدم والحدة. ماذا سيفعل الفريق الملتصق به؟ هل يعتقد أنه سيحكم لبنان وحده؟ ماذا سيفعل مع وبشريكه الآخر وهو لبناني؟ هل سيرّحله من البلد. هل سيخضعه في البلد؟ هل سيعاقبه ويعذبه في البلد؟ هل سيكسره؟ أم أنه مضطر للعيش معه وهو لبناني مثله؟ وكيف ستكون المنطقة المحيطة والتحديات والمخاطر كبيرة والمذهبيات والتطرف والتعصّب عوامل تنمو هنا وهناك؟

ولنفترض أن الفريق المنتظر لسقوط النظام في سوريا ويتصرف كما ذكرنا نجح خياره. فذلك لن يكون إلا بعد وقت طويل، وبالدم المستباح والمباح بالنسبة إلى البعض في طريقة تصرفهم. ماذا سيفعل هذا الفريق في لبنان؟ هل يعتقد أنه سيحكم البلد وفق معادلته ورهاناته وشهدائه؟ ماذا سيفعل بأشقائه اللبنانيين الآخرين؟ هل سيقول لهم ارحلوا مع quot;نظامكمquot;. لقد سقطتم مع سقوطه؟ لقد انتهى دوركم؟

في الحقيقة هذه أوهام! وخطورة ما يجري في لبنان أن أحداً لم يطرح هذه الأسئلة في عمق التفكير بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في سوريا. وإذا طرحت كعناوين فلا نجد من يفتح نقاشاً حولها لوضع حد لما يجري في البلد، أو لرفع الصوت والمطالبة بالقول: اتركوا مكاناً للبنان! اتركوا مكاناً لكم في لبنان. اتركوا مكاناً لدوركم في لبنان. اتركوا مكاناً لبعضكم في لبنان. اتركوا مكاناً للعقل في لبنان. اتركوا مكاناً للمشترك في لبنان. اتركزا مكاناً للوصل في لبنان. ابتعدوا عن سياسة الفصل والانفصال. نحن محكومون بالبقاء معاً على أرض واحدة، وبالتفاعل معاً. تعالوا لنفكر معاً وكل منّا تاركاً مسافة في حساباته للقاء شريكه. لا تقفلوا الأبواب. لبنان لم يعد يحتمل مثل هذه السياسات. ونحن نرى الشلل والخلل في كل مكان والتهديدات من كل حدب وصوب والضغوط على كل القطاعات، وفي كل المجالات، والأوضاع تزداد تعقيداً!

إذا أردنا مواجهة السياسة الأميركية - الإسرائيلية، فإن ما يجري في سوريا والعراق ومصر ولبنان، وليبيا... يفيدها. يكفي أن نرى الانقسامات المذهبية والصراعات والحسابات الطائفية أو المذهبية وتخوين بعضنا بعضاً بها ومنها ومن نتائجها. يكفي أن نرى الجيوش منهمكة ومنهكة في المواجهات الداخلية، متهمة من قبل بعض أبنائها ومن حولها وورائها بما تقوم به. والتهديدات الإسرائيلية ومحاولات استغلال ما يجري في كل مكان لممارسة مزيد من الضغوط على لبنان، وخصوصاً على الفلسطينيين لا تتوقف. وإذا أردنا المحافظة على لبنان وما تبقى من الدولة فإن ما يجري اليوم لا يخدم هذا التوجه. فكرة الدولة تتراجع، مؤسسات الدولة تتراجع. إمكاناتها تتراجع رغم الاكتشافات النفطية والغازية. موقع العقل يتراجع في التأثير والفعل في لبنان.

لأننا لن نترك لبنان الأرض. ولن نترك لبنان الوطن. فلنترك له مكاناً لنبقى فيه موحديّن قادرين على التأثير في مسار الأحداث بما يحميه ويحمي أولادنا!