سلطان عبدالرحمن العثيم

طغى مصطلح السلفية كثيرا في الفترة الأخيرة بشكل لافت، وأصبح هذا المصلح مادة خصبة للتحقيقات الصحافية والمقالات اليومية والتغريدات التويترية والبرامج الوثائقية الموجهة وغير الموجهة هنا أو هناك.
لن يكون حديثي هنا عن محاولة ربط السلفية بالإرهاب والثورات، كما حاول أن يروج بعض الرؤساء المخلوعين لتشتيت الانتباه عن وجود ثورة شعبية غاضبة في بلدانهم للمطالبة بالحقوق والحرية والكرامة ورفع المظالم المتراكمة عنهم.
ولكن الحديث سيكون عن محاولة بعض السياسيين التمسح بالسلفية والاهتمام بها بشكل لافت على غير العادة، وهو ما جعل الميكنة الإعلامية تعمل بكافة طاقتها في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى وضع الشعارات وعقد المؤتمرات واللقاءات وإصدار التصاريح التي تتغزل بالسلفية!! هذا التحول أفرز سلوكا -كما يلاحظه المراقبون- لم يكن موجودا في السابق، ولكن التحولات الكبرى في المنطقة جعلته أحد استراتيجيات الدفاع والاستقطاب. فالسياسي عندما يقترب من الدين عادة فهو يحاول أن يتألف العامة ويخطب ودهم لشعوره بخطر قادم عليه، أو لرغبته في توسيع نفوذه وبسط قوته، أو إلباس قراراته الشرعية الكافية.
فيبدأ بإخراج من الأوراق والكروت ما يخدم موقعه ومصالحه وأهدافه المحددة. وهنا علينا أن نعود إلى الواقع الذي أحدثه زلزال 2011 حيث تغيرت أحوال وأقوال وأعمال..
إذ سقط عدد من الأنظمة في بلدان كان الكل يعتقد أنها في مأمن، وأصبح الهاجس الإصلاحي هو مدار حديث الشعوب الساخطة على واقعها الذي لطالما حلمت بتغيره. ولعل من أهم إفرازات العام المنصرم هو صعود كبير للإسلاميين إلى مواطن صناعة القرار وميدان السلطة والسلطان مما جعل الكثير من الجبهات الداخلية الخارجية تستنفر لفهم هذه التحولات ومحاولة حرف الثورات عن مسارها الصحيح إلى مسار إلى آخر حسب المصالح الدولية والإقليمية وفلول الأنظمة البائدة وبكل تأكيد الكيان الصهيوني العاصب.
هذا الصعود الإسلامي الكبير في أكثر 6 دول غلبت عليه صبغة الإخوان المسلمين، وهو ما أثار حفيظة وتخوف صناع القرار في الكثير من البلدان التي تحوي احتقانا شعبيا أو حراكا مجتمعيا متناميا بشكل ملحوظ، ذلك كله جعل الطبقة السياسية الحاكمة تبحث عن حلول تنقذها من موجات الربيع العربي المتلاحقة والهائجة.
فهي غير قادرة على الإصلاح؛ لأن الفساد فيها بنيوي ومؤسسي، وهذا مما أثر كثيرا على الوضع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي لهذه البلدان، وجعل التدهور العام حالة ملحوظة، وهو بازدياد مضطرد ينبئ بكوارث قادمة.
هلال الإخوان الذي بدء يتشكل من المغرب إلى تونس إلى ليبيا مرورا بمصر والسودان وفلسطين وربما سوريا والأردن واليمن، ناهيك من كون المدرسة التي خرج منها حزب العدالة والتنمية في تركيا الملهم للتيار الإسلامي هو أيضا من رحم مدرسة الإخوان، وذلك عبر أستاذ القائدين رجب طيب أردوغان وعبدالله غل ومعلمهم laquo;نجم الدين أربكان رحمه اللهraquo;. ولفهم أكبر في مجريات الموضوع نحتاج نفهم كيف تكوّن تيار السلف الصالح وكيف تأسس، فهو باختصار كان عبارة عن مشروع إصلاحي تشكل كردة فعل على انتشار البدع والخرافات وعبادة القبور من دون الله والتبرك بالأضرحة وانتشار الشركيات والخزعبلات والانحراف العقدي الخطير، الذي جعل العلماء والمهتمين يقودون دعوة تصحيحية لعودة الناس لمنهج السلف الصالح من صفاء العقيدة وإفراد التوحيد لله وسلامة المنهج وعودة للجذور المحمدية الأصيلة للدعوة، بعد هذه الانحرافات التي وقعت في الميدان. استمر الحال على ما هو عليه من تركيز السلفية التقليدية على قضايا العقيدة وسلامة المنهج العام من الانحراف، ولكنها رغم أن المجتمعات الإسلامية بدأت تتوسع وهي تنظر للإسلام على أنه منهج حياة متكاملة فيه البعد السياسي والاجتماعي والشخصي والاقتصادي، فهذا يجعلها تؤمن أن واقع الحياة تغير وتنوعت ضرورات الحياة ومستجدات العصر، وعليه خلق ذلك كله نوعا من التحولات التي أفرزتها حاجات المرحلة الجديدة حيث ظهرت الأفرع من الشجرة الأم.
ظلت السلفية التقليدية في أدبياتها لا تتعاطى السياسة أو القضايا الحقوقية أو الشأن العام أو المستجدات الدولية، واستمر الثقل العقدي والدعوي ذو المنهجية الوعظية الحاضر الأكبر في المشروع السلفي في مدرسته التقليدية.
وهذا بكل تأكيد جعل الساسة في الفترة الأخيرة يحاولون أن يتمسحوا بها ليس حبا بها، ولكن لإضعاف غيرها وتقويض مسيرتهم واستخدام السلفية كمسحوق لتجميل الواقع وتلميع الأعمال والممارسات السياسية، وهو استخدام خطير للدين لطالما شاهدنا أمثاله عبر التاريخ.
ومع التحولات الكبرى في القرن الماضي وتنوع الحاجات والتوجهات والاهتمامات، برز هنا مخاض جديد، ولدت لنا ثماني مدارس تتبع هذه المدرسة الأم في الكليات وتختلف معها في الجزئيات والفروع، وهي الإخوان والتبليغ والصحويون والسروريون والسلفية الجهادية والسلفية الإصلاحية وحزب التحرير والتيار التنويري ذو المرجعية الإسلامية، والبعض يدخل معهم التيار الجامي، وللغالب تحفّظ على ذلك كون الجاميين كما يقول الباحث الشرعي أ.إبراهيم السكران: laquo;ليست تيار فكريا بل كادرا وظيفياraquo;، وهو الأقرب في نظري لأنه لا تنطبق عليه شروط ولوازم المدرسة الفكرية التي تكون مستقلة وتنبثق من عقول المفكرين والمصلحين وأرواحهم، ولا تصنع في مطابخ السياسة ودور الحكم وتوجه من هناك.
وهنا يلوح لنا بالأفق بُعْد هام وهو أن البعد عن السياسة والشأن العام جعل السياسيين يستخدمون السلفية التقليدية كدرع واقي من أي من الهزات القادمة، وهنا ستجد بالمقابل حربا منظمة على الفكر الإخواني والتشكيك في توجهاته وحملات شرسة للتضييق وعلى رموزه والنيل منه على جميع الأصعدة، عبر مكننة الإعلام والصحافة الرسمية ومراكز الأبحاث والدراسات لنشاطه السياسي وقوته التنظيمية وشعبيته المتصاعدة وفاعليته على الأرض وقدرته على تحريك الشارع ومطالبه الدائمة بالإصلاح وعودة الحقوق وتاريخيه الطويل في النضال، وهو أمر يخيف السياسي الكلاسيكي المحارب للتغير والراغب في فرض الأمر الواقع على الجميع وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، واستخدام الإصلاح كشعار يدغدغ به مشاعر العامة ويعدهم به عن قريب!!
وما ينطبق هنا على الإخوان ينطبق على غيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى التي تمارس العمل السياسي أو تهتم به، مثل السلفية الإصلاحية أو حزب التحرير أو السروريين أو الصحويين وغيرهم..
وكل هذه التجاذبات تجعلنا نتساءل: هل وصل التيار الإسلامي إلى النضج الذي يجعله قادرا على تجاوز محاولة خرق الصف والدخول في لعبة الاستقطاب السياسي والاصطفاف الفكري التي تحاول الكثير من الجهات أن تلعبها مع هذا التيار الشعبي بامتياز لتحقيق مصالحها الخاصة وأهدافها الاستراتيجية وإجهاض الربيع العربي وتحويله إلى خريف لا خضر ولا زهور.
أم أن الربيع العربي سوف يقدم لنا حالة من الرشد العملي والتوازن الفكري والتكامل الوظيفي الذي يجعل المشروع الإسلامي يجابه كل محاولة الاختراق أو التقسيم أو الانقضاض الداخلية والخارجية، فالتاريخ مليء بصور استخدام الدين كمطية للطبقة السياسية في عالمنا العربي، فهل يستفيد التيار الإسلامي الواسع الشعبية من هذه الدروس التاريخية أم يعود إلى التشرذم والانقسام؟

laquo;محبرة الحكيمraquo;
تمسّح السياسيين بالسلفية هذه الأيام يذكرنا بمثل شهير أضحى رمزا للوصولية والتسلق السياسية وهو laquo;ليس حبا في علي ولكن كرها في معاويةraquo; وتطبيقه الآن على واقعنا المعاصر هو: ليس حبا في السلفية ولكن كرها في الإخوان..