خيرالله خيرالله

في غضون يومين، أطلّ الرئيس بشّار الاسد على السوريين والعرب والعالم مرتين. في المرّتين لم يجب عن السؤال الأهمّ المتعلّق بشرعية النظام ومدى شرعية وجوده على رأس النظام. هل يكفي انقلاب عسكري ليكون النظام شرعيا؟ هل تكفي وراثة انقلاب عسكري، تطوّر تدريجا ليصبح الحكم في يد عائلة معيّنة كي يصبح من هو على رأس النظام شرعيا؟
ولكن بعيدا عن الشرعية التي لا تأتي الا عبر صناديق الاقتراع عندما يكون النظام جمهوريا وليس ملكيا، ثمة نقطتان فاتتا الرئيس بشّار الاسد في الخطابين، خصوصا في الخطاب الاوّل الطويل الذي تحدّث فيه عن كلّ شيء ولم يتحدث في الوقت نفسه عن الشيء الأساسي. يتمثل الشيء الأساسي في كيفية الانتقال بسورية الى نظام جديد مرتبط بما يدور في المنطقة والعالم ويحقق للشعب السوري بعض طموحاته، في مقدمها استعادة كرامته وحريته.
لعلّ النقطة الاولى التي فاتت الرئيس السوري في خطابه الطويل تجاهله ان المشكلة التي يعاني منها النظام غير قابلة للحلّ نظرا الى انها قائمة مع الشعب السوري وليس مع معارضة غير موحّدة، والأخرى ان الكلام عن العرب والعروبة لا يغطي واقعا اليما. يتمثّل هذا الواقع في ان سورية في عهد الأسد الابن تحوّلت من حليف لإيران الى تابع لها.
لم يعد لدى النظام السوري ما يعتمد عليه سوى الدعم الايراني المباشر وغير المباشر عبر العراق. والكلام هنا عن العراق في مرحلة ما بعد الانسحاب العسكري الأميركي الذي افسح في المجال لجعل اليد الطولى فيه للنظام الايراني...
الأكيد ان في الامكان الحديث عن نقاط ضعف أخرى كثيرة في الخطاب الطويل، خصوصا اضطرار الرئيس السوري الى التحدث عن الزيتون وموقع سورية في العالم بصفة كونها القوة الخامسة في حقل تصدير الزيتون. ليس معروفا بعد كيف يمكن صرف هذا الكلام عن قوة الزيتون وأهميته في بلد لا يمتلك النظام فيه القدرة سوى على ممارسة سياسة الابتزاز نظرا إلى انه عاجز عن الحرب وعن السلام. مثل هذا الكلام عن الزيتون واهمية الزيتون والذي يتجاهل عمق الازمة التي يعاني منها النظام يدلّ على ان ليس في الامكان القيام باصلاحات من ايّ نوع كان. انه نظام مريض يرفض الاعتراف بانّ لا امل للقائمين عليه سوى القبول بمرحلة انتقالية تقود الى تغيير سلمي وعبور الى برّ الامان ليس لسورية فحسب، بل لأركان النظام ايضا بعيدا عن اي نوع من البطولات والعنتريات التي تجاوزها الزمن.
كشف الخطاب ان النظام السوري في مواجهة مباشرة مع الشعب. كشف خصوصا انه ليست لديه خيارات أخرى غير الخيار الأمني. يرفض النظام الاعتراف بأنّ مشكلته مع كل السوريين. مع دمشق وحمص وحماة وحلب واللاذقية وادلب ودير الزور ودرعا ودوما والسويداء ومعرة النعمان وتلكلخ ومع كلّ مكونات الشعب السوري من سنة ومسيحيين وعلويين ودروز واسماعيليين اضافة بالطبع الى الاكراد.
ليس أسهل من الكلام عن ارهاب وارهابيين لتبرير القمع الذي يمارس في حق الشعب السوري الذي قرر المقاومة ولا شيء آخر غير المقاومة. انّ المقاومة الحقيقية الآن هي مقاومة الشعب السوري لنظام يريد استعباده ولا يمتلك اي خيار آخر غير خيار القمع. هل صدفة ان اربعمئة سوري قتلوا منذ بدء مهمة المراقبين العرب الذين لا يمتلكون اي قدرة على المراقبة. كلّ ما يستطيع هؤلاء المراقبون عمله هو التحقق من ان النظام السوري يستخدمهم من اجل كسب الوقت ليس الاّ وكأن الوقت يعمل لمصلحته!
يخطئ الرئيس السوري اذا كان يعتقد ان في استطاعته اعادة عقارب الساعة الى الخلف. هناك شعب قرّر بكل بساطة استعادة كرامته. هذا كلّ ما في الامر. نعم، ان سورية هي قلب العروبة النابض. لكن قلب العروبة النابض لا يطعن السوريين في الظهر ولا يطعن العرب في القلب ولا يحوّل سورية الى تابع للنظام الايراني. من يتحدث عن تنوع في سورية لا يمكن ان يقبل بان يكون تحت رحمة ميليشيا مذهبية مسلّحة في لبنان. كذلك، لا يمكن لمن يتحدث عن العروبة الحضارية ان يكون اسير ما يقدمه له النظام الايراني العنصري من دعم.
يفترض في النظام السوري الابتعاد عن اعطاء دروس في العروبة. يكفيه انه لم يعد لديه اي نفوذ في لبنان الاّ عبر laquo;حزب اللهraquo; الايراني. من شكّل الحكومة الحالية في لبنان برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي هو laquo;حزب اللهraquo; ولا احد غير laquo;حزب اللهraquo;. كلّ ما تبقى تفاصيل ومحاولات للهرب من الواقع.
سقط النظام السوري عمليا في العام 2005 عندما اضطر الى التخلص من رفيق الحريري بشكل مباشر أو غير مباشر، بالتواطؤ مع آخرين او بترك آخرين ينفّذون الجريمة. ان استشهاد رفيق الحريري ليس laquo;اغتيالاraquo; كما ورد على لسان الرئيس السوري في خطابه. ان استشهاد رفيق الحريري ورفاقه ليس حدثا عبرا بمقدار ما انّه علامة فارقة على صعيد التغييرات التي طرأت على التوازنات الاقليمية. فبعد اغتيال رفيق الحريري حصل اهمّ تطور على صعيد المنطقة. يتمثل هذا التطور في استسلام النظام السوري للنظام الايراني وتحوله الى امتداد له لا اكثر...
بدل القاء خطاب طويل فارغ من اي مضمون حقيقي باستثناء الشعارات التي لا قيمة حقيقية لها والتي لا تنطلي سوى على السذج، كان الأجدر بالرئيس بشّار الاسد الاعتذار من السوريين واللبنانيين والعرب عموما. في النهاية ان السوريين ليسوا بالسذاجة التي يظنّها. انهم شعب متمسّك بثقافة الحياة. لو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاعوا مواجهة آلة القمع التي يمتلكها النظام طوال ما يزيد على عشرة اشهر في غياب أي دعم دولي او عربي او اقليمي.
آن اوان مواجهة الحقيقة بدل الهرب منها. ليس النظام السوري الحالي الذي يعطي شهادات في الوطنية والعروبة. من يعطي مثل هذه الشهادات هو الشعب السوري الذي يحاول استعادة سورية واعادتها الى حضن العروبة الحضارية البعيدة كلّ البعد عن الطائفية والمذهبية.
هذا الشعب الذي عانى من النظام يعرف قبل غيره ان ليس في الامكان المتاجرة به إلى ما لا نهاية من جهة، وان هناك مرحلة عمرها نصف قرن انتهت من جهة أخرى. هذا كلّ ما في الامر. ليس هناك استعداد لدى الشعب السوري للرضوخ لنظام ظالم والقبول في الوقت ذاته بالهيمنة الايرانية. العالم تغيّر. هذا ما فات ولا يزال يفوت الرئيس السوري الغارق في اوهام الدور الاقليمي.