صبحي حديدي

أتاح 'الربيع العربي' للعديد من المراقبين الغربيين، خاصة في الولايات المتحدة، فرصة استئناف واحدة من هواياتهم المفضّلة، التي تستعيد بدورها واحدة من أعرق العادات الاستشراقية الذميمة: إطلاق النبوءات ذات المدى القصير، والكارثي المتكئ على سيناريوهات قيامية لا تُبقي ولا تذر؛ وبالتالي ممارسة مهنة العرّاف، ليس اعتماداً على الحملقة في البلّورة السحرية التقليدية دون سواها، بل عبر 'تفكيك' و'تحليل' و'تركيب' معطيات جيو ـ سياسية معقدة، قادمة مع ذلك من أحشاء بلّورات سحرية شتى، افتراضية واستيهامية.
الأمريكي روبرت د. كابلان أحد أبرز هؤلاء، ومن الخير للمرء أن يبدأ من نبوءاته عن قادم الأيام السورية، وكيف برهنت ـ دائماً في الواقع، وبلا أي استثناء يُذكر ـ على صواب تلك الحكمة العتيقة: كذب المنجّمون، ولو صدقوا! على سبيل المثال الأوّل، منذ سنة 1993 تنبأ كابلان بأنّ حافظ الأسد لن ينجح في الحيلولة دون بَلْقَنة سورية، وأنّ 23 سنة من حكمه سوف تنقطع بالضرورة، لأنّ البلاد موشكة على التفكك إلى دويلات. وبالطبع، توشك 19 سنة على الانقضاء من دون أن تتحقق تلك النبوءة، وصدِّقوا أنّ صاحبنا المتنبئ لم يكترث بمراجعتها مرّة واحدة، سواء بهدف نقدها أو إعادة تصنيعها.
بيد أنّ الانتفاضة السورية كانت فرصة أشدّ جاذبية من أن تغيب عن بلّورته السحرية، فكان أن تفرّس وحدّق وتفحص، وخرج بهذه النتيجة (وكيف له أن يحيد عنها!): سورية موشكة على حرب أهلية طاحنة، ولسوف تنقسم وتتشرذم و... تتبَلْقَن! وفي مقال بعنوان 'سيريانا: بعد بشار الأسد، الطوفان' ـ ذاع صيته سريعاً وانتشر كالنار في الهشيم، قبل أن تبرهن الأيام على هزال خلاصاته ـ انتهى كابلان إلى حكم جامع مانع لا يمتّ بصلة إلى طموحات الشعب السوري في التحرّر من نظام الاستبداد والفساد، وفي التطلع إلى دولة مدنية ديمقراطية، فرأى أنّ 'الاحتجاجات' ليست سوى 'مآزق هويّات'!
وخذوا، في مثال أعرض يتجاوز سورية إلى المشرق العربي بأسره، ما يقوله كابلان عن حركة التاريخ في هذه المنطقة: 'البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تكن تحمل إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (...) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية'.
هذا اقتباس من مقالة بعنوان 'تحريك التاريخ'، يستهلها كابلان بالقول إنّ أيّ زعيم منذ نابليون بونابرت لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ ويختمها بتشجيع المزيد من أشغال 'تهشيم النظام بعد ـ العثماني'، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية. وليس من دون فضيلة المصارحة، وإنْ تجرّدت من منظومة 'الأخلاق' الغربية التقليدية، أنّ كابلان يهتك المسكوت عنه، فلا يتردد في بلوغ الخلاصة التالية، بالحرف: بدل الديمقراطية، خير لنا أن نستقرّ على 'نوع من إدارة الحكم، أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى، حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة'. وللإيضاح، يتوقف كابلان عند معيار انهيار البلقان التاريخي الذي تفكك على مراحل عدّة، تمثلت خاتمتها في انحلال 'دويلات الباحة الداخلية'، هذه التي تبدو دول مثل سورية والعراق مثالها الراهن.
لكنّ كابلان ليس حامل بلّورة سحرية من النوع الرخيص الشائع، وليس مجـــــرّد كاتب يلقــــي الخلاصات على عواهنها، بل هو صاحب تأثير شبه سحري على كثير من كبار صانعي القرار وراسمي السياسات في أوروبا والولايــــات المتحــــدة، وقد مارس هذا الدور طيلة عقود.
ومنذ العام 1993، حين نشر كتابه 'أشباح البلقان'، وهو يتربّع على عرش تأويل 'العالم الجديد'، بوصفه واحداً من أكثر الكتّاب جسارة على التفكير في المحظور، وحماساً لصياغة سيناريوهات مستقبلية حول مسير الأرض نحو الكوارث. والكاتبة إليزابيث درو، في كتابها 'على الحافة'، كادت أن تقسم بأغلظ الأيمان أن تخطيطات كابلان هي التي ردعت (نعم: ردعت!) إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عن تطبيق سيناريوهات عسكرية أشدّ بأساً في يوغوسلافيا العتيقة.
وبين 1993 حين تنبأ كابلان بالبلقنة في سورية، و2011 حين تنبأ لها بالطوفان، كان النظام يواصل البقاء استناداً إلى عناصر، داخلية وإقليمية ودولية، لا يجمعها جامع مع النبوءات؛ وكان الشعب السوري، من جانبه، يواصل التراث الوطني ذاته الذي لم يفضِ به إلى تصارع الهويات، بل إلى اتحادها وائتلافها وانخراطها في انتفاضة شعبية عارمة، ضدّ الاستبداد والفساد والحكم الوراثي العائلي. وغنيّ عن القول إنّ أية بلّورة سحرية لم تكن قمينة بإلهام كابلان كي يتنبأ بطوفان من طراز تاريخي خاصّ، لا يطهّر سورية قبل إسقاط نظام الأسد فقط، بل بعده أيضاً... سواء بسواء.