السيد ولد أباه

لا يزال حدث الثورة التونسية لغزاً عصياً على التحليل بعد مرور سنة كاملة على هروب الرئيس السابق quot;بن عليquot; وسقوط نظامه المفاجئ.

عندما كنت في تونس مؤخراً التقيت بالعديد من أبرز قيادات العمل السياسي ومن رجال الفكر والباحثين ، طرحت عليهم السؤال نفسه: quot;هل توقعت الانهيار السريع والكامل للنظام الذي كان ظاهر القوة والصلابة والاستقرار؟quot;. وكانت الإجابة واحدة تتكرر quot;لم نتوقع النهاية المفاجئة quot; حتى ولو كان البعض يزعم أنه توقع حتمية السقوط.

في المكتبة العتيدة بشارع بورقيبة التي تعودت أن أطيل المكث فيها خلال زياراتي لتونس عناوين كثيرة تتحدث كلها عن الثورة، من بينها شهادات لسياسيين محترفين كان أغلبهم صامتاً في العقود الماضية، وتحليلات فكرية واجتماعية لكبار المثقفين، وكتب خفيفة تتحدث عن أسرار الأسرة التي كانت تحكم البلاد (بن علي وأصهاره المدعوين بالطرابلسية).

من بين كل هذه الكتب، وجدت كتاب المحلل النفسي quot;فتحي بن سلامة quot; الصادر بالفرنسية بعنوان quot;فجأة الثورةquot; كتاباً يعطي مفاتيح حقيقية لفهم الحدث في أبعاده وخلفياته العميقة.

ينطلق فتحي بن سلامة، الذي هو من أبرز علماء النفس على المستوى العالمي في كتابه من منهج quot;جيو التحليل النفسيquot;، الذي كان من إبداعه الشخصي. ويعني هذا المنهج رصد العلاقة بين البنية النفسية الداخلية والمجال الجغرافي أو الإقليمي.

يذهب بن سلامة إلى اعتبار الزلزال التونسي نقلة راديكالية حادة من براديغم الهوية إلى براديغم الحرية-المساواة ، مما عكسته حادثة انتحار quot;البوعزيزيquot;، الذي هو تدمير للذات احتجاجاً على التفاوت والظلم.

الانتحار هنا هو تعبير عن مفارقة انتصار العجز على القوة المطلقة، تغلب الشخص المحترق الذي لم يعد له وجه على الحاكم الذي تنتشر صوره في كل مكان. الانتحار بهذا المعنى هو تحدي لمنطق تسيير الحياة الجماعية، الذي هو من أدوات الحكم، وخروج بالموت عن دلالته الذاتية الفردية ليغدو الإنسان المهمش رمزاً للبشرية بأكملها. إنه تضحية بالنفس من أجل ما هو أسمى من حب الذات، أي فعل إنقاذ لمحبوب أغلى من النفس، أو نقل لحب الذات لنفسها إلى حب شامل يتم من خلاله التماهي بين الحب النرجسي والحب الجماعي.

ويرجع quot;بن سلامةquot; هنا إلى أطروحة أبي التحليل النفسي المشهور quot;فرويدquot; حول quot;التشكل الليبدي للمجموعةquot; :اتفاق مجموعة ما من البشر على اتخاذ شيء مشترك بديلاً عن المثال الذاتي لكل منهم من أجل أن يتماهوا في ما بينهم. موت البوعزيزي شكل للتونسيين هذا المثال المتخيل الذي جمعهم على المحبة والتكتل ودفعهم للخروج والتمرد والتضحية.

لا يهمل بن سلامة التحليل الاقتصادي والاجتماعي ولا المأزق السياسي، الذي كانت تونس تعيشه، ولكنه يتجاوز هذا المستوى التحليلي لرصد الحدث في رمزيته الكثيفة وإيحاءاته العميقة بصفته لحظة انتصار الإنسان على ضعفه وعجزه بعد أن أصبح يشعر quot;بفضيحة إنسانيتهquot; حسب عبارة الفيلسوف الفرنسي quot;جيل دلوزquot;، التي يستشهد بها الكاتب.

ليس من همنا الاسترسال في عرض كتاب quot;بن سلامةquot;، الذي يستخدم فيه عدة مفهومية ومصطلحية شديدة التعقيد، وإنما حسبنا الإشارة إلى أهمية الزاوية النفسية التي تناول منها الحدث التونسي، الذي شكل لحظة حاسمة في مسار التحول السياسي في العالم العربي.

صحيح أنه لا يمكن تطبيق النموذج التحليلي نفسه على الحالة المصرية، باعتبار أن البلدين، وإنْ اتفقا في غياب الديمقراطية وفساد النخب الحاكمة، إلا انهما يختلفان في مناح عديدة (الحرية النسبية للإعلام وهوامش التعبير والتنظيم ...).

بيد أن سنوات مبارك الأخيرة عرفت تحولاً نوعياً مهماً هو انهيار هيبة النظام وانحسار هالته الرمزية، مما عكسته مقالات الصحف والأعمال الإبداعية ndash;الروائية على الأخصndash; التي أدت أدواراً مهمة في مسار نزع القداسة عن السلطة الحاكمة. وهكذا أصبح مبارك يحكم في سنوات حكمه الأخيرة بقبضة القوة لا رمزية القيادة. لم يكن لثورة مصر شخصيتها البوعزيزية ولكنها وجدت في quot;ميدان التحريرquot; لوحة الإسقاط ndash;بلغة التحليل النفسي- التي تختزن رمزياً المشاعر الوطنية المصرية المشتركة في مواجهة وضعية الإهانة واليأس التي غدا نظام مبارك رمزاً لها.

في ليبيا أخذت رمزية التمرد إيحاءات مغايرة ركزت على قيم الكرامة وأخلاقيات الغيرة والشهامة والثأر للشرف، مما عكسته التسريبات المثيرة عن حياة القذافي الشخصية وغزواته النسائية وفساد أبنائه ومحيطه. الثورة من هذا المنظور انتقام لشرف الأخت والبنت وتأكيد لقيم القبيلة في مواجهة quot;الصعلوك الفاسقquot; حسب عبارة أحد ثوار مصراتة الذين اعتقلوا العقيد المهزوم وحولوا لحظة إعدامه إلى مسرح للانتقام للشرف من خلال أفعال مستهجنة مدانة.

في سوريا انتصرت الجموع المحتشدة على نظام بنى كل مخزونه التعبوي والدعائي على رمزية الكرامة والممانعة والدفاع عن الشرف العربي في مواجهة تخاذل الآخرين وتفريطهم في حقوق الأمة.لم يعد هذا المعجم فعالًا في مواجهة صورة الأطفال مقطوعي الأطراف وأشلاء العجائز وصور المساجد المهدمة. كان من الطبيعي أن تنطلق الثورة من مناطق العشائر العريقة في القامشلي ودرعا وريف دمشق، وما كانت ليشتد عودها لو بقيت في مستوى الشعارات السياسية المألوفة. في الحالات الأربع، نحن أمام الظاهرة نفسها: تجاوز المنطق السياسي والخروج عن موازينه وتوازناته، في لحظة تمرد إنساني أقصى على الوضع القائم.

في هذا الباب تفيدنا روايات quot;فولتيرquot; لفهم الثورة الفرنسية أكثر مما تفيدنا فلسفة quot;روسوquot; التي دعت للتغيير ونظرت له، كما تنفعنا روايات quot;تولستويquot; في فهم الثورة الروسية أكثر من نصوص لينين، وكذلك شأن روايات صنع الله إبراهيم وعلاء الأسواني، التي استشرفت التحول من خلال الحفر العميق في شخصية الإنسان المصري.

التحدي الكبير المطروح راهناً على النخب السياسية، هو ترويض قوة الثوران والتمرد في الشارع العربي، لتحويلها إلى طاقة دافعة للتغيير السلمي قبل أن تأكل الثورة نفسها.