عبد الوهاب بدرخان


مضى عام على quot;الربيعquot;. يحق لتونس أن تحتفل. فهذا البلد الصغير أطلق الشرارة ثم صار مختبراً لمآلات الانتقال والتغيير، فيما يُنظر إلى مصر على أنها الجسم الأكبر الذي حمل quot;العدوىquot; ويتوقع منه كما دائماً أن يعمم الدواء، وأن يبقى البوصلة العربية. في الحالين، كان لابد أن تظهر توقعات شعبية عالية، وأن يدفع الاستعجال إلى شيء من الاستسهال، لكن المشهد الانتخابي المنضبط هنا وهناك دلّ على أن الناس استوعبوا حتمية الصبر. فالمسألة لا تقتصر على رأس أو رؤوس تسقط، وإنما تنطوي على مصاعب البناء أو حتى إعادة البناء من الصفر أحياناً. وبين الذين أداروا ويديرون المراحل الانتقالية. قليلون هم الذين قالوا صراحة للشعب إن ما ينشده يتطلب وقتاً بل الكثير من الوقت.

الجديد في هذا quot;الربيعquot; أنه أشعل وعياً اختزنه المجتمع ولم يستطع تفعيله في ظل القمع والترهيب. الجديد المهم أن quot;الحريةquot; أصبحت مقياس التعامل مع كل من يقترب من دائرة الحكم. وهو ما لم يكن موجوداً عندما تسلمت الأنظمة السابقة -أو التي ستصبح سابقة قريباً- مقاليد السلطة قبل ثلاثة عقود أو أربعة بانقلابات أو بعد اغتيالات. بل إن المجتمعات تعاملت يومئذ مع تقافز العسكر إلى السلطة على أنه من طبائع الأشياء. الجديد الآخر المهم أن الشعب ينتخب من سيكتبون الدساتير الجديدة، لتصبح هذه الدساتير هي الحَكَم في العلاقة بين السلطة والشعب، مع التشدد في احترام حقوق الإنسان، إذ لم ينس أحد أن quot;الكرامةquot; كانت إحدى أبرز القيم التي شحنت الثورات والانتفاضات.

لا ريب أن في ذلك جرعة تفاؤل قد يحكم عليها بأنها مبالغة. لكن هذا ما يحصل فعلاً. قد لا تكون الوجوه التي ظهرت معبرة تماماً عن التغيير المنشود، إلا أنها لن تقيم طويلاً أسوة بوجوه النظام السابق. يجب ألا ينسى أحد أن ثمة ثقافة استطاع حكام ما قبل quot;الربيعquot; أن يشيعوها فأدت إلى تيئيس الشعوب من الإسلاميين الذين غدوا ضد quot;الإرهابquot;، لكن أيضاً من الليبراليين الذين ركبتهم سمعة المشاركة في الفساد عن خطأ أو عن صواب. وبعد سقوط أولئك الحكام لم يكن متوقعاً لهذا الإشكال أن يدوم. جيء بالإسلاميين عبر صناديق الاقتراع، لا لأنهم امتهنوا دين الجميع وسيلة للتحزّب، وإنما لتجريبهم وجعلهم تحت المساءلة ومحاسبتهم لا بأحكام الدين وإنما بأحكام الدستور. ذاك أن الجديد quot;الربيعيquot; الآخر هو أن أي حاكم، ولو كان منتخباً، لن يحظى بعد اليوم بالثقة المطلقة.

ثمة تجربة، إذاً، ورغم هذه الانتصارات الانتخابية التي يحققها الإسلاميون، ما يمكن أن يغريهم بالاستئثار والغطرسة، إلا أنهم فهموا وسيفهمون أكثر مغزى الرسالة التي تلقوها من المجتمع. إذ أنهم، خلافاً لسواهم، سيكونون سريعي العطب إن هم فشلوا. ولعلهم أدركوا، أو بدأوا يدركون الآن، خطأ رفع شعار quot;الإسلام هو الحلquot;، فلا حكمة البتة في إقحام الدين بهذه الطريقة الانتهازية، لأن احتمال فشلهم وارد، وعندئذ سيكونون هم الذين فشلوا -وليس الإسلام- في إدارة شؤون السياسة والاقتصاد والأمن والعدالة الاجتماعية.

من هنا أن جديداً quot;ربيعياًquot; أمكن التعرف إليه، مروراً بصناديق الاقتراع. دعك من غطرسات بعض الإسلاميين، ومن قنابل صوتية يطلقها بعض آخر منهم. إذ أنهم بدأوا لتوّهم يتعرضون إلى الحدود الحقيقية لشطحاتهم الأيديولوجية أيام كانوا في المعارضة. ففي الطريق إلى أروقة الحكم وجدوا أنهم يحتاجون في إسلامهم السياسي إلى سياسة أكثر وإسلام أقل. لذا راح زعماؤهم يتخففون شيئاً فشيئاً من الحمولات الافتائية التي استخدموها سابقاً لاستقطاب المؤيدين والنشطاء. فالمجتمع لم ينتظرهم ليشغلوه بجدل آخر حول أوضاع المرأة، أو بانقسامات لا داعي لها سوى توطيد سلطتهم، أو للعودة به إلى تجريب المجرب في الخيارات السياسية والاقتصادية، وإنما يتوقع منهم إذا كانوا فعلاً quot;بتوع ربناquot; أن يوقفوا نهب المال العام. فهذه الانتفاضات غلبت عليها السياسة وكان مضمونها اقتصادياً، والأنظمة الجديدة تبدو صراعاً بين تيارات سياسية إلا أن محلها الحاسم سيكون اقتصادياً.