محمد عياش الكبيسي

تتصاعد الأصوات داخل الوسط السني بضرورة تحويل المحافظات السنية إلى (أقاليم)، ووصل الأمر إلى الإعلان الرسمي كما في صلاح الدين وديالي، ويبدو أن الأنبار قد اتخذت قرارها بالفعل، بينما يرفض المالكي ويعلن استعداده لتجاوز الدستور الذي ينص على هذا الحق، ومع المالكي تصطف ميليشيا جيش المهدي التي ترفع لافتاتها (كلا كلا للتقسيم)، ويلتقي هذا الرفض مع بعض الأصوات الوطنية المتخوفة من الفيدرالية، والتي تعدها ثقافة جديدة جاءت مع (الدبابة الأميركية) و(دستور بريمر) و(مشروع بايدن)، وهذا كله يبعث على القلق من وجود مشروع تقسيمي حقيقي للعراق.
وأمام هذه المخاوف يتسلح دعاة الفيدرالية بـ(المظلومية السنية)، فالمحافظات السنية تعاني من الظلم والتهميش على كل المستويات، مما يؤكد وجود مخطط لاستئصال السنة ومسخ هويتهم بعد تجريدهم من وسائل الدفاع عن أنفسهم ليخضع عامة أهل السنة لمشروع تثقيفي قسري، بحيث لن يكون مستقبل حالهم بأفضل من (سنّة إيران).
والمنصف ليس له إلا أن يعترف بأحقية الطرفين في شكوكه ومخاوفه، وكل حسب خلفيته الثقافية (دينية) أو (وطنية)، ونحن أمام أزمة حقيقية لا ينجينا منها إلا الصدق مع الله ثم مع أنفسنا وأهلنا، وأن توصيف المشهد ما زال بحاجة إلى تشخيص أعمق، فكل ما ذكرناه قد لا يمثل الحقيقة الكاملة، وإذا كان حكمنا على الشيء فرعا عن تصوره، فإننا سنقع في خطأ الحكم بقدر نقص التصور، ولعلنا نسهم هنا بتكميل الصورة أو تجويد الرؤية.
ينطلق السنة العرب من خلفية ثقافية رصينة وعميقة تدفع باتجاه الوحدة، منذ اليوم الأول لفتح العراق على يد الصحابة الفاتحين -رضي الله عنهم- مرورا بأبي جعفر المنصور ndash; باني بغدادndash; والمعتصم وإلى اليوم، وقد اقترن العراق تاريخا وحضارة باسم السنة وزعمائهم، وبهذه الروح تصدى السنة للاحتلال الأميركي، رغم علم السنة بأن هذا سيكلفهم ثمنا ثقيلا في الحال والمآل، وعلمهم أيضا أن هذا سيفسح المجال لغيرهم لملء الفراغ، ولكن هذه الثقافة تقابلها ثقافتان هما:
الكرد هم سنة ومتمسكون بدينهم، إلا أنهم يمتازون بثقافة أخرى لا بد من الاعتراف بها، تتلخص هذه الثقافة بشعور الكرد بالظلم الدولي والإقليمي لهم، حيث إنهم شعب واحد تم تقسيمه بين أربع من دول المنطقة (تركيا وإيران وسوريا والعراق)، وهم يناضلون من يوم التقسيم إلى اليوم لرفع هذا الظلم، وحين نخاطبهم بروح الأمة الإسلامية يقولون لنا: نعم لقد كنا معكم في سرّائكم وضرائكم يوم كنتم أمة، أما لما رضيتم بالدولة (الحديثة) و(أمة عربية واحدة)، فمن حقنا أن نقول (أمة كردية واحدة)، وقد قدّم الكردي دما غاليا في سبيل قضيته هذه، وبالتالي فإنه إن كان يعيش معنا اليوم فإن عينه على (الدولة الكردية الواحدة)، هذا حلم شاب عليه الكبار وتربى عليه الصغار، ولا يمكن تجاوز هذا الحلم إلا بصناعة الحلم الأكبر وهو (الخلافة الإسلامية) والأمة الإسلامية الواحدة، وهو غير مطروح اليوم، وعليه فلا بد من تفهم الوضع الكردي والعمل على توسيع القاسم الإيماني المشترك معهم.
ينطلق الشيعة من مسلمات دينية وثقافية موغلة في التاريخ، ولهم قراءتهم الخاصة للدين والتاريخ، وهم على خلاف معنا منذ يوم الفتح الأول للعراق، فهم يتنكرون للقادسية وقادتها عمر وسعد والقعقاع ndash;عليهم رضوان الله-، ولا يذكرون المنصور والمعتصم وحتى صلاح الدين إلا بكل ما ينقصهم ويشينهم، وقد عاشوا كل تاريخهم بسياسة (المعارضة) وثقافة (المظلومية)، والرغبة بالانتقام مؤصلة عندهم دينيا وثقافيا، وتعاونهم مع المحتل الأميركي ومن قبله المحتل المغولي ينطلق من هذا التأصيل، والتشيع (دين) عالمي عابر للحواجز القطرية والقومية، والشيعي المنسجم مع تشيعه وثقافته الذاتية لا يمكن إلا أن يكون مع المشروع الشيعي الكبير الذي تقوده إيران اليوم، لكنّ السني اليوم هو الذي يعيش حالة من الازدواجية بين انتمائه (الديني) وانتمائه (الوطني أو القومي)، وهو يحاول أن يقرأ الطرف الشيعي بمنطقه هذا، لكن الشيعة في العالم تجاوزوا هذه الإشكالية، وها هو السيستاني (الإيراني الجنسية) يقود شيعة العراق والخليج (دينيا وسياسيا)، وقد تولدت هذه الازدواجية عند السنة، لأن السنّي هو (ابن الإسلام) من ناحية، وهو أيضا (ابن الدولة)، بخلاف الشيعي المعارض للدولة من العصور الأولى إلى اليوم، وفي مقابلة مع حسن نصرالله قال بصريح العبارة: نحن أهل فقه ودين، ومن فقهنا وديننا أن نلتزم ببيعتنا للسيد الخامنئي، وهو اليوم ولي أمر المسلمين، والشيعة يتطلعون اليوم لدولة (المهدي) ويتهيئون لمبايعته مهما كانت جنسيته.
لقد أراد السنة أن يغمضوا عيونهم عن خلفية الشيعة الدينية والثقافية هذه ويفصلوها عن الموقف السياسي! ليرسموا حلما موغلا في الخيال، أن بإمكانهم أن يقودوا الشيعة في (ثورة شعبية) لتطيح بالحكومة الطائفية أو بدولة (الإمامة)، والواقع أن الشيعة قد التفّوا على هذا الحلم وأخذوا يرفعون شعارات الحالمين هؤلاء ذاتها (لا للطائفية)، نعم لقد صرخ المالكي في خطابه الأخير بقوة (لقد قبرنا الطائفية ولا رجعة لها أبدا)! وترجمة هذه العبارة بالضبط: أنه لن نواجه بعد اليوم صراعا طائفيا، فالسنة قد تغيبوا عن المشهد وفقدوا أدوات الصراع.
ربما بدأنا نقترب من تشخيص المعضلة السنية، السني ليس له مشروع خارج دولته، حيث تجذّرت الثقافة القطرية في عموم الأوساط السنية في العالم، وضعفت ثقافة (إعادة الخلافة)، وعليه يجد السنة العراقيون أنفسهم وحيدين بلا ناصر ولا معين، فليس هناك دولة سنية واحدة في العالم من الممكن أن تزج بنفسها في الميدان العراقي إلا وفق مصالحها الخاصة، وقد تكون هذه المصالح بيد المالكي وليس بيد السنة! وفي المقابل ينتمي الكردي العراقي إلى مشروعه الكردي الكبير، وكذلك الشيعي المنتمي إلى مشروعه الشيعي العالمي، والسني بقي وحيدا، إنه يريد عراقا موحدا كما عهده، ويتشبث بقصص الأجداد، وأغنيات الأمهات، وأشعار الجواهري، إنه يتألم بصدق، إنه لا يريد أن يرى هذا الواقع حتى لو كان واقعا، إنه يصرخ: إن هذا مشروع صهيوني، نعم يا أخي، لكن هذا المشروع الصهيوني تعامل مع أرض وواقع وتاريخ وثقافة، إن بايدن لم يصنع هذا التباين العرقي أو الثقافي، إنها تراكمات القرون التي لم نتمكن من حلها حتى تفجرت اليوم، ودعاة الفيدرالية السنية لو أنصفناهم فإنهم لا يفكرون إلا بإدارة أنفسهم بعد أن تفرقت السبل بشركائهم في الوطن، وهم لا يريدون من الفيدرالية إلا هذا، فهم في المدى المنظور بين خيارين، إما أن يديروا أنفسهم بأنفسهم أو يمنحوا هذا الحق لغيرهم، إذاً الفيدراليون السنة لا يريدون الفيدرالية، وهم لم يؤمنوا بها في يوم ما، ولو كانت المسألة مسألة ظلم لتحملوا وصبروا، لكنهم يرثون اليوم تركة ثقيلة، فالمشروع الوطني العراقي لم يبق له غيرهم، وكيفما قلّبوا الأمور فإنهم لن يتمكنوا من إقناع شركائهم بالانضمام لمشروعهم هذا، بمعنى أنهم سيكونون فيدراليين بالإكراه الملجئ حتى لو رفضوا الفيدرالية وكفروا بها، فهم كالحاء بين الخاء والجيم! نعم وهم يعون فوق هذا تبعات الفيدرالية وإشكالاتها فلا تتعب نفسك في بيانها.
بقي علينا ونحن في طور التشخيص أن نقول: إن إيران لم تحتل العراق بمعنى الاحتلال المعروف، إذا لتوقعنا حصول هبة تحررية في يوم ما، لكن الحقيقة أن شيعة العراق بمراجعهم المعتبرة وأحزابهم الفاعلة يرون في إيران قبلة لمشروعهم الديني العالمي فهذه ثقافة ودين، وإذا كان لإيران مشروع آخر (الإمبراطورية الفارسية) فإن هذا المشروع لن يكون بمعزل عن المشروع الشيعي، وهذه طريقة إيران في تركيب أهدافها، وأما التعويل على الشيعة (العروبيين أو الوطنيين)، فهذا لا مستند له إلا إذا فصلنا بين الشيعي وعقيدته، ثم إن هذا الطيف الافتراضي لماذا لم يعبّر عن نفسه إلى الآن؟ ولننظر إلى طوفان المناسبات الشيعية والشعارات الثأرية الصارخة، أكل هؤلاء إيرانيون؟ وكل هؤلاء سينقلبون على شعاراتهم هذه ليسيروا خلف أحلام الثورة الوطنية؟ أتمنى ذلك. لكني أخشى بصدق أن نتحول إلى جنود للولي الفقيه في معارك (تصدير الثورة) كما تمكن صدام من تجنيد الشيعة لطموحاته الوطنية والقومية.