محمد السماك

نشرت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في عهد بوش مذكراتها في كتاب جديد. يقع الكتاب في 766 صفحة، وعنوانه quot;لا شرف أسمى: مذكرات سنواتي في واشنطنquot;. ولعل أهم ما يثير الاهتمام في هذا الكتاب هو القصة الخلفية لقرار غزو العراق. فالوزيرة الأميركية السابقة تؤكد -ما هو معروف بصورة عامة- من أن العملية الإرهابية (11 سبتمبر 2001) التي استهدفت نيويورك وواشنطن سرّعت في قرار غزو العراق، إلا أن القرار بالغزو كان متخذاً قبل العملية. وأنه منذ ذلك الوقت، بدأ وضع السيناريو لتبرير الغزو. فكانت قصة شراء العراق كميات من اليورانيوم من النيجر، التي اكتشف فيما بعد أنها كانت quot;مفبركةquot;. وكانت قصة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل يمكن أن تصيب أهدافاً في أوروبا، التي اعترف رسميّاً أيضاً أنها كانت كاذبة. وتؤكد رايس أن فقرة في خطاب بوش تتألف من 16 كلمة فقط وتناولت هذا الموضوع، كانت المفتاح لغزو العراق.. وكانت تاليّاً سبب الانهيار، حتى أنها تعترف بأنها قالت لبوش قبل وقت قصير من انتهاء ولايته: quot;سيدي الرئيس يجب أن تدرك أن الناس لم تعد تتحمّلناquot;، وكان ذلك إيذاناً بالاعتراف بالهزيمة السياسية التي أطاحت بوش من البيت الأبيض، ووجهت ضربة قاصمة إلى الحزب الجمهوري الذي كان يتزعمه.

وبالفعل فإن البروفسور نيقولا بيرنز أستاذ سياسة العلاقات الدولية في جامعة هارفرد والسفير الأميركي السابق إلى منظمة حلف الأطلسي، وصف الحرب على العراق بأنها كانت quot;خطأ استراتيجيّاًquot;، وأنها كانت أقوى ضربة منفردة توجه إلى قوة أميركا وإلى هيبتها منذ حرب فيتنام. واعترف بيرنز بأنه عندما كان سفيراً أيّد الحرب في عام 2003، ولكنه سرعان ما تأكد من أن أي فائدة منها لا يمكن أن تساوي تضحيات الجنود والضرر الفادح الذي لحق بالسمعة الدولية للولايات المتحدة وبصدقيتها.

وتعترف رايس في كتابها أيضاً بأن انهيار صدقية بوش وإدارته تتحمل مسؤوليته الشخصيتان الأوسع نفوذاً في تلك الإدارة وهما quot;تشينيquot; نائب الرئيس، وquot;رامسفيلدquot; وزير الدفاع. وقد اتهمتهما صراحة بتضليل بوش. وتذكر في كتابها بشكل واضح أنها شككت في صحة المعلومات التي كان يقدمها تشيني ورامسفيلد إلى الرئيس حول التقدم في السيطرة على الأوضاع في العراق. وكانت تقول لمدير مكتبها الخاص: quot;إنني لا أصدقهما. إنني قلقة من تطور الأحداث على عكس ما يوحيان به للرئيسquot;.

ومع تزامن نشر كتاب رايس، كتب كنعان مكية، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة برانديز، ومؤلف كتاب quot;جمهورية الرعبquot; الذي كان من العناصر الملهمة لغزو العراق، مقالاً في صحيفة نيويورك تايمز قال فيه: quot;إن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش كانت في حرب مع ذاتها في الوقت الذي كانت تخوض فيه الحرب ضد صدام حسينquot;. وقال quot;إن السي.آي.إيه (وكالة الاستخبارات) ووزارة الدفاع، ووزارة الخارجية، والبيت الأبيض، كانت كلها في حال من التناقض والتنافر حول ما يجب القيام به. وكانت لكل مؤسسة من هذه المؤسسات الكبيرة فلسفتها ولم يستطع الرئيس بوش، ولا فريق عمله، أن يوفق بينهاquot;. وكانت نتيجة ذلك الخسارة المدويّة.

وقد ذكرت رايس في كتابها أنها قالت لبوش quot;إننا نخسرquot;. وعند ذلك سألها: quot;ما هي السياسة التي تعتقدين أن علينا أن نسلكها إذن؟quot;.. وتقول إنها لم تكن تملك سوى جواب واحد وهو quot;أن الوقت قد فات لاتباع أي سياسة ناجحة بعد الذي حدثquot;.

وتعترف رايس بأنها عندما صارحت بوش بذلك، انفجر الصدام بينها وبين الرجلين، وأصبحت منذ ذلك الوقت كالعنزة السوداء في قطيع البيت الأبيض. فقد اتهمتهما بصورة واضحة ولكن غير مباشرة، بالعنصرية، وذلك عندما ذكرت في كتابها أنهما تعمّدا إبعادها مع وزير الخارجية كولن باول عن الاحتفال بنجاح عملية اجتياح العراق في عام 2003 (وكانت في ذلك الوقت مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي). فهل كانت مجرد مصادفة أن رايس وquot;باولquot; ينحدران من أصول إفريقية سوداء؟

ولكن هذه الوزيرة التي تنحدر من أصول إفريقية لم تتردد في وصف رامسفيلد بـquot;الغطرسةquot;، وتشيني بـquot;قصر النظرquot;. وقد عزت في كتابها الفشل الأميركي في العراق إلى ارتكاب أخطاء حمّلت البنتاغون مسؤوليتها. وهذه الأخطاء في نظرها كانت:

- إرسال عدد أقل من اللازم من القوات الأميركية إلى العراق.

- تخصيص قوات أقل لحفظ الأمن.

- حل الجيش العراقي وتسريح قسري لعناصره.

- الاعتماد على تقارير quot;سرياليةquot; غير واقعية عن تطور الأحداث تتناقض مع الوقائع، وحتى مع التقارير الصحفية الأميركية.

ولعل من أغرب ما ذكرته في كتابها في هذا الشأن أنها كانت تهمل التقارير الرسمية عن الأوضاع في العراق، وتحاول استقصاء الحقيقة من الصحفيين الأميركيين ومن الروايات الصحفية التي كانت تنشر في الصحافة الأميركية.

وتقول رايس أيضاً إنها منذ عام 2006 لم تعد تولي التقارير الرسمية الأميركية عن العراق أية أهمية لاعتقادها بأنها تخلو من الصدقية، وأنها كانت تعتبر ما يرد فيها، خاصة حول قضايا الأمن، معلومات مضللة وخادعة.

ولابد هنا من التذكير بأن رايس كانت في ذلك الوقت وزيرة للخارجية، ومقربة جداً من الرئيس الأميركي -إذ كانت قبل ذلك مستشارته لشؤون الأمن القومي. ولابد أيضاً من التذكير بطبيعة علاقاتها المضطربة التي كانت تفتقد الثقة والاحترام المتبادل مع رامسفيلد، وquot;تشينيquot;، وهما اللذان كانا يشكلان مع بوش ومعها الحلقة الضيقة التي تعد فيها القرارات السياسية الأميركية من قضايا العالم، ومن قضايا العراق بصورة خاصة.

وفي ضوء ذلك ترتفع علامة الاستفهام الكبيرة حول الصورة الواقعية للولايات المتحدة من الداخل وهي في ذروة قوتها المعنوية والسياسية بعد عملية 11 سبتمبر 2001، وبعد انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي السابق، وتربعها منفردة على عرش النظام العالمي الجديد. وتحيط علامة الاستفهام هذه بعملية اتخاذ القرار السياسي في أول quot;حرب اختيارquot; تشنها الولايات المتحدة وهي في ذروة الانتصار السياسي! فكيف سيكون إذن سلوكها إذا خاضت quot;حرباً بالضرورةquot;، وإذا لجأت إلى هذه الحرب وهي في حالة التردي الاقتصادي الذي تنوء تحته، والانقسام السياسي الذي تعاني منه في الوقت الحاضر؟

في كتابها quot;لا شرف أرفعquot;، تعترف رايس بأنها quot;صدمت في أعماقهاquot; لدى وقوع حادث 11 سبتمبر 2001. وكانت وقتها رئيسة لمجلس الأمن القومي الأميركي. وتقول إنها مع ذلك رفعت صوتها عاليّاً في وجه بوش صارخة: quot;إن الظرف غير آمن لتعود إلى واشنطنquot;.

واستناداً إلى الوقائع فقد أذعن بوش وأخر عودته إلى واشنطن عدة أيام إلى أن انجلى غبار العدوان على وزارة الدفاع في العاصمة وعلى برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك.

ولا تكتمل عناصر هذه الصورة المضطربة من دون التذكير بأن رايس هي أميركية من أصول إفريقية- سوداء. وبأن بوش الذي كان حاكماً لولاية تكساس قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، هو من أركان الحركة الإنجيلية المسيحانية الصهيونية، وهي حركة دينية متطرفة عانى الأميركيون السود على يديها في السابق -خاصة في الولايات الجنوبية- أسوأ أنواع الاضطهاد.

ولكن الأمر الذي لا يمكن عدم التوقف أمامه هو أن رايس انضمت إلى هذه الحركة الدينية، مما فتح أمامها أبواب إدارة بوش أولاً كمستشارة ثم كوزيرة للخارجية.. وهو الأمر الذي لم يهضمه لا quot;تشينيquot; ولا رامسفيلد!

لقد تصادف صدور كتاب رايس في وقت متزامن مع الانسحاب الأميركي من العراق، بعد عقد كامل من الاحتلال. وكما كانت أسباب الاجتياح مختلقة وكاذبة كما اعترفت رايس -وقبلها الجنرال باول- كذلك فإن نتائج الاجتياح التي تدعي إدارة بوش أنها تتمثل في زرع الحرية والديمقراطية في أساس النظام السياسي العراقي كانت كاذبة أيضاً. وهو ما تؤكد الوقائع المأساوية التي يمر بها العراق في الوقت الحاضر.

ومع ذلك فإن أوباما لم يتردد في أن يقول وهو يستقبل القوات الأميركية العائدة إلى بلادها: quot;لقد حققتم انتصاراً كبيراً نعتز بهquot;... فأين هو هذا الانتصار؟!