أسامة سعيد القحطاني

رد الشيخ الطريفي أحاديث اختلاط الصحابة في الأسواق، بأنها طرقات وليست مواضع جلوس وقرار، فنقول حسبك بذلك، وأجز لنسائنا أن يعملن ويطلبن الرزق في الأسواق كما عملت الصحابيات


يكثر الحديث هذه الأيام عن الاختلاط بين النساء والرجال، نظرا لحاجة النساء إلى العمل؛ إلا أن الأمر قوبل بالتشديد والتحريم من البعض، حرصا منهم على منع تفشّي الفساد في المجتمع. وقد بَنَوا ذلك على تحريم الاختلاط جملة وتفصيلا، فهل المسألة قطعية؟ أم أن الأمر اجتهادي ويخضع للنظر؟
وممن شدّد في الموضوع الشيخ عبدالعزيز الطريفي وفقه الله، وهو عالم ولا نشك في علمه، إلا أن كلاً يُؤخذ منه ويُرد، ولا أريد منه إلا إحسان الظن وألا يحشرني في الزمرة التي تحدث عنها في كتابه. وأؤكد أنني لست بمفتٍ ولا شيخٍ، وإنما باحث عن الحق والصواب، طالبا من الله التوفيق.
من اللازم أن نُخرج بعض المسلّمات التي جاءت بها الشريعة بشكل لا لبس فيه، ومنها:
1- تحريم الخلوة بين الرجل والمرأة.
2- تحريم الاختلاط الذي يكون فيه ممازجة ومماسة، كأن يجلس الرجل بجانب المرأة كتفا إلى كتف في الاجتماعات العامة أو الخاصة، مما يكون فيه فتنة غالبا، وذلك بعموميات الأحاديث وسدا للذريعة. وبهذا؛ يدخل الاختلاط في مقاعد الدراسة بشكل عام، ما لم يكن هناك حاجة ماسة، فتعامل كل حالة بحسبها.
3- تحريم الاختلاط الذي يكون فيه فتنة وتبرج، كالاختلاط في الأعراس ونحوه.
وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإنه من الواجب التحوّط بالفصل بين النساء والرجال في أماكن العمل خاصة قدر الإمكان، دون التكلّف والتشدد في ذلك سدا للذريعة.
فالحديث سيكون فيما عدا ذلك، من الاختلاط الذي يقع في العمل أو غيره، بالشروط والضوابط السابقة.
من الملاحظ من خلال بحث الشيخ التشنيع والتشديد على المخالفين. ولكن ليس فيما استدل به نص واحد يدل على مسألتنا بدلالة التطابق - الذي هو واجب في أي مسألة إجماعية قطعية يُكفّر على استحلالها ويُستتاب (كما نقل ذلك في بحثه) - ولا بالعموم، بل كلها في الاستدلال بها نظر. الأمر الموجب لسعة الأفق وعدم التشديد على المخالف، خاصة مع وجود الأدلة الشرعية التي يستدل بها المخالفون. والأصل في الأمور الإباحة حتى يأتي الدليل الكافي لنقله عن الأصل، والنصوص جاءت واضحة في المنع من الخلوة والتبرج، ولم تأتِ كذلك في مسألتنا، مما يجعل المسألة اجتهادية، يُقبل فيها الخلاف والنظر.
واستدل الشيخ بعدد من الأدلة، وسأناقش أقواها باختصار، وهي:
1- عموم قول النبي عليه السلام (ليس للنساء وسط الطريق)، ولكن النهي هنا من أجل منع المماسة كما ذكره عدد من العلماء، منهم ابن حبان راوي الحديث، والمماسة قد استثنيناها وليس فيه ذكر للاختلاط، بل الحديث يصلح أن يكون عليه وليس له.
2- حديث عقبة بن عامر (إياكم والدخول على النساء). ولكن الحديث هنا مفسَّر بالخلوة، قال الترمذي: معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي عليه السلام: (لا يخلونّ رجل بامرأة). فالحديث مصروف على الخلوة، ولا يخفى مثل هذا على الشيخ. وقد أورده البخاري تحت باب quot;لا يخلوّن رجل بامرأة إلا ذو محرمquot;، وساق بعده حديث quot;لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرمquot;.
3- ذكر الشيخ عددا من الاستدلالات فيها تكلف لصرف الإباحة إلى التحريم والله أعلم، منها استدلاله بالأمر بغض البصر على تحريم الاختلاط، أو بالمنع من وصف المرأةِ المرأةَ للزوج، وهذه قاصرة على حالاتها ليس فيها ذكر للاختلاط، وهل يكون الغض للبصر إلا بالاختلاط؟
4- ذكر فروعا فقهية مبنية على العادات ونحوها، كرد شهادة المختلط بالنساء، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تُقبل شهادة معلمي الصبيان والشُرط مما تكلم فيه العلماء آنذاك؟
5- ثم نقل الإجماع على التحريم، ولا أدري أي اختلاط يعني؟ فالاختلاط له عشرات الصور، ولا شك أن ما يعنيه العلماء هو الاختلاط المحرم المذكور آنفا أو بالخلوة.
الحقيقة أن الأصل في منع الاختلاط - عند من يحرمه جملة - هو سد الذريعة، وليس محرما لذاته، ولذلك فهو جائز في حال أمان الفتنة بإجماع العلماء كما يحصل في الأسواق قديما والمساجد. ولو كان محرما لذاته لما أُبيح بوجود المحرم! بل لما كان هناك فائدة لتحريم الخلوة!
بل هناك أدلة تُقوي وجهة المرخّصين، ومنها:
1- الحديث الذي ضيَّف فيه الصحابيُّ ضيفَ النبي صلى الله عليه وسلم هو وامرأته، وكانوا يأكلون معا. وقد رده الشيخ بتكلف بأنه ضرورة! وأي ضرورة هذه وقد كان بإمكانها تحضير الطعام وعدم الجلوس في المجلس! والواجب أخذ الحديث على ظاهره دون تكلف إلا بما يكفي لصرفه من الدلائل المقررة لدى علماء الفقه والأصول، فالحديث فيه جلوس مع امرأة، إلا أنها لم تكن خلوة وبوجود محرم.
2- أحاديث اختلاط الصحابة في الأسواق، وقد ردها الشيخ بأنها طرقات وليست مواضع جلوس وقرار فنقول حسبك بذلك، وأجز لنسائنا أن يعملن ويطلبن الرزق في الأسواق كما عملت الصحابيات، مع أن بيع الصحابيات يستوجب التكرار والقرار وليس كما يقول الشيخ.
3- أحاديث مشاركة النساء في الغزو والجهاد، وقد صرفها بوجود المحارم، ومع أنه ليس لديه دليل إلا أن هذا لا يستقيم أيضا، فالمحارم لن يكونوا بجانب نسائهم في السفر بشكل دائم، واختلاطهم بالرجال أمر حتمي! وكان الأولى أن يقول إن الفتنة كانت مأمونة، ولم تكن هناك خلوة! ولو صرفها بالضرورة التي صرف بها حديث الضيف لكان أهون، إلا أن هذا مردود أيضا بفقدان الصارف الصحيح، فلو كان الأمر كما يراه الشيخ لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم والسكوت عن بيان الواجب غير جائز كما يقول الأصوليون، فسكوته دليل الجواز.
4- كما أن خروج النساء للعمل ونحوه هو من باب الخروج لقضاء الحوائج، وفي حديث سودة quot;قد أذن الله لكنّ أن تخرجن لحوائجكنquot;، وهذا في حق أمهات المؤمنين وفي غيرهن أولى. أما القول بأنه منسوخ بآية الحجاب، فالنسخ يكون فيما تعارض من الأحكام، ولا يتعداه إلى المسكوت عنه إلا بدليل، والمرأة مطالبة بالحجاب في الاختلاط وغيره، وهو أمر شرعي لا علاقة له بالمسألة.
فالواجب تحرّي الصواب والتيسير على الناس وليس التشديد عليهم، خاصة فيما يتعلق بالرزق. ولا أشك أن ما دعا الكثير من الغيورين إلى التشديد هو ما يقع من أخطاء وتجاوز، ولكن هذا لا يُسوّغ حرمان الآخرين. هذا عرض سريع مختصر، أرجو من الله أن يهديني إلى الحق والهدى، والله أعلم.