غازي العريضي

أتى التغيير في تونس بحركة quot;النهضةquot; إلى الحكم من خلال الانتخابات. وأتى التغيير في مصر بحركة quot;الإخوان المسلمينquot; إلى الحكم، وحلّ بعده حزب quot;النورquot; السلفي من خلال الانتخابات. وهذه حركات وقوى ذات توجهات إسلامية ينظر إليها البعض بعين الريبة والقلق، ويذهب آخرون إلى التحذير من تطرفها وتشددها.

في كل الحالات هذه نتيجة الانتخابات التي لم يشكك فيها أحد. يعني هذه نتيجة الخيار الشعبي الذي لا بد من احترامه وأفرزته الممارسة الديموقراطية. والقوى الفائزة معنية بالمحافظة على هذه الديموقراطية في ممارستها للسلطة لتحمي الفرصة التي جاءت بها وتبقيها مفتوحة أمام كل الناس للاستفادة منها والوصول إلى الحكم في ممارسة سليمة وسلمية. هكذا يتكرّس المعيار الواحد في التعاطي من جهة. ويتكرس حق كل الناس من جهة ثانية، كما يتكرس التغيير ومبدأ تداول السلطة من جهة ثالثة.

وفي مصر بشكل خاص برزت عوامل قلق وخوف مما جرى، خصوصاً وأن أحداثاً تعرّض لها الأقباط قدّمت صورة بشعة عن الوضع. كان استنفار من الجميع لتأكيد الوحدة الوطنية. رأينا البابا شنودة وشيخ الأزهر والمجلس العسكري وقادة ورموز الأحزاب في جلسة واحدة تأكيداً للتماسك الوطني ومنعاً للفتنة. ويبقى الأمل كبيراً والرهان قوياً على استمرار هذا التوجه والموقف لحماية مصر ومنع انزلاقها إلى حيث لا يريد أحد من المؤمنين والمخلصين والحريصين عليها وعلى دورها وهويتها وموقفها الوطني والقومي الذي هو الأساس وإليه نستند.

وللأزهر في مصر دورٌ كبير وتأثير مهم. ويبدو أنه عاد ليبرز من جديد مع الشيخ الدكتور أحمد طيب الذي قال في أكتوبر 2010 لصحيفة النهار اللبنانية: quot;لقد درسنا وثيقة السينودوس وquot;حرية الضميرquot; قررها الإسلامquot;.. العقلية الإسلامية عقلية نقدية منذ البداية. تنتظر الرأي والرأي الآخر. والفكرة والفكرة الأخرى... والقرآن الكريم يوضح أن الاختلاف سنة كونية. فالاختلاف في اللغة (اختلاف ألسنتكم وألوانكم). والاختلاف في الجنس والعقيدة (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً). والقرآن يقرر حقيقة الاختلاف (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). quot;وأضاف: (إن quot;حرية الضميرquot; يقررها الإسلام الذي يقول كتابه الكريم في محكم آياته: quot;لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيquot; ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم quot;ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينquot;. ويقول سبحانه: quot;فذكر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمصيطرquot;. وأعتقد أن في هذه الآيات أبلغ رد على موقف الإسلام من حرية الضمير).

ومنذ أسابيع قليلة خطا شيخ الأزهر الدكتور أحمد طيب في مواكبة quot;الثوراتquot; والتغيير في المنطقة لطمأنة فئات واسعة من القوى العلمانية والليبرالية والأقليات العربية، بإصداره وثيقة quot;الحريات العامةquot; التي قال إنه سيقدمها للمسؤولين المصريين للأخذ بها في الدستور المنوي إقراره للبلاد.

وفي الوثيقة أبواب أربعة تمحورت حول: حرية العقيدة. الرأي والتعبير. البحث العلمي والفني والإبداع الأدبي. وتحظر أي نزعات لـ quot;الإقصاء والتكفيرquot; وترفض quot;التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائدquot; وتجرم أي مظهر لـ quot;الإكراه في الدين أو الاضطهاد أو التمييز بسببهquot;، وتشدد على أن quot;لكل فرد في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء من دون أن يمسّ حق المجتمع في الحفاظ على العقائد السماويةquot;.

والأهم في الوثيقة حرية العقيدة وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع quot;مكفولة بثوابت النصوص الدينية القطعية وصريح الأصول الدستورية والقانونيةquot;. كما أكدت أن quot;للأديان الإلهية الثلاثة قداستها وللأفراد حرية إقامة شعائرها من دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس برمتها قولاً وفعلاًquot;، والتسليم بمشروعية التعدّد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في كل الحقوق والواجباتquot;.

وفي مسألة التعامل مع مسألة الحريات العامة وعلاقتها بالدين، اعتبرت الوثيقة أن الدعوات التي تتذرع بالدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخل في الحريات العامة والخاصة، لا تتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي لمصر الحديثة فيما تحتاج البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين، والذي هو رسالة الأزهر الدينية ومسؤوليته نحو المجتمع والوطنquot;. وأكدت الوثيقة أن quot;حرية الرأي هي أم الحريات كلهاquot;!

وفي هذا الظرف بالذات، يمكن القول إن هذه الوثيقة هي شرعة جديدة في مجال احترام العقل وحقوق الإنسان. والعقل هو الأساس في كل شيء والإنسان يبقى هو الغاية في كل تحرك وعمل نبيل وشريف.. إنها وثيقة تاريخية تضم إلى وثيقة حرية الضمير وربما تأخذ بعداً أهم نظراً لما يواجه القوى والحركات الإسلامية من تحديات ومسؤوليات ومن انتقادات لبعضها ومحاولات استغلال لبعضها الآخر لتشويه صورة العرب والمسلمين ولحصر الإرهاب في هذا الموقع ومحاولة الإدعاء أن الإرهاب هو في الفكر ذاته وليس في ممارسات بعض أتباعه أو مريديه أو مستغليه. وبالتالي للرهان على الفتن الطائفية والمذهبية المفتوحة في مجتمعاتنا ومع الآخرين.

الوثيقة هي موقف طيب متقدم جداً من الدكتور أحمد طيب، ينبغي أن يكون الأساس في توجهاتنا. فالتنوع ضمن الوحدة المجتمعية هو العنوان الأساس الذي يجب أن نستند إليه وننطلق منه جميعاً لنحرص على بقاء بعضنا بالارتكاز إلى قيمنا. حرية التعبير والرأي والمعتقد هي الأساس. والذي يكون صاحب فكر واسع وعلم وفير وعطاء غزير ومعرفة كبيرة يجب ألا يخاف فكرة أو فكراً أو تعبيراً أو نقداً. بل ينبغي أن يكون صراع أفكار وتفاعل أفكار لبناء مجتمعاتنا الحديثة بعيداً عن العصبية والجهل والحقد والاستقواء والأساليب غير الأخلاقية وغير الإنسانية.

الوثيقة هي رؤية إنسانية أخلاقية. واحترام الآخر هو واجب أخلاقي. وحقه في التعبير عن رأيه هو أيضاً واجب إنساني أخلاقي لا تستقيم الحياة بالتخلي عنه والذهاب إلى انحرافات بالابتعاد عنه. وتكافؤ الفرص في الحقوق والواجبات هو أساس العدالة والعدل هو أساس الملك وعلى هذا النحو ينبغي أن تكون المواقف والممارسات وأن تبنى السياسات والمؤسسات.

موقف شيخ الأزهر اليوم، موقف متقدم تاريخي يدعو إلى الشراكة الحقيقية وإلى إعلاء قيمة الفكر والعقل. وإلى التسامح والكرامة والأخلاق والإنسانية، وهذا ما يجب أن تبنى عليه تربية أبنائنا في كل معاهدنا ومدارسنا لا سيما الدينية منها. ومن الضروري أن يكون سعي لإدخال هذه الثوابت في دستور مصر الجديد.

وإذا كانت وثيقة quot;السينودوسquot;أي quot;حرية الضميرquot; انبثقت من الفاتيكان، ووثيقة الحريات العامة انبثقت من الأزهر، فما أجمل أن نرى حواراً عميقاً بين هذين الموقعين الكبيرين حول مضامينهما، وقد التقتا حول الجوهر الواحد جوهر احترام الأديان ورسالاتها واحترام الإنسان وكرامته وحقه في الاختلاف مع الآخر. والأهم اليوم، والذي يجب أن يعطى الأولوية هو الحوار السني - الشيعي. حوار أبناء البيت الواحد، الذي أشار إليه شيخ الأزهر في حديثه إلى صحيفة quot;النهارquot; اللبنانية شارحاً موقفه ومؤكداً: quot;إننا نحتاج إلى وحدة الأمة الإسلامية لكل دولها وهذا شيء مهم وضروري ونحتاجه ومن دونه لا نستطيع أن نرفع رؤوسنا في يوم من الأيامquot;!

تعالوا لنقف على قيم وثيقة حرية الضمير، ووثيقة الحريات العامة، ونرفع رؤوسنا عالياً. نتطلع إلى المستقبل ونكون أقوياء في نفوسنا وعقولنا ومواقفنا.