غسان العزي

عام بالتمام والكمال انقضى على فرار الرئيس التونسي السابق ابن علي وانتصار الثورة الشعبية التونسية على إحدى أعتى الدكتاتوريات المعاصرة . ولمناسبة الذكرى الأولى لهذا الحدث الجلل سمعنا كلاماً كثيراً فيه تمجيد وإطراء، وفي الوقت نفسه كلاماً فيه تذمر وخيبة أمل لأن أهداف الثورة لما تتحقق بعد .

بالطبع من حق المنتقدين أن يعبّروا عن آرائهم، فهذا من أبسط قواعد الديمقراطية وحرية التعبير، لاسيما وأن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت من أسباب الثورة لاتزال جاثمة على الصدور بل إنها زادت تفاقماً في بعض المضامير . كان هناك ثلاثمئة وخمسون ألف عاطل عن العمل في العام 2010 وأضحى عددهم يناهز المليون بعد الثورة . ضحايا هذه الأخيرة من شهداء وجرحى وغيرهم لم ينالوا بعد الاعتراف اللائق بهم كما قال الرئيس منصف المرزوقي في خطابه الأخير في الذكرى الأولى للثورة . ثم إن انتهازيين من النظام السابق لايزالون في مراكزهم وكثيرون ممن شاركوا بوحشية في قمع التظاهرات لايزالون خارج المساءلة والحساب . وفي العموم فإن الثورة التي بدأت في شكل احتجاجات اجتماعية واقتصادية قبل أن تتحول إلى المطالبة باسقاط النظام السياسي لم تحقق بعد شيئاً من أهدافها عدا الاطاحة بالدكتاتور .

لكن والحق يقال إن الاطاحة بالدكتاتورية ليست تفصيلاً، إنها بكل بساطة أولى معجزات القرن الجاري .من كان يصدق أو يتصور قبل العام 2011 أن مثل هذه الإطاحة ممكنة ومن الداخل بالطريقة التي حدثت فيها؟ ما أنجزه التونسيون خلال العام المذكور معجزة حقيقية من دون أدنى مبالغة، وإليهم يعود الفضل في اندلاع الثورات العربية التي تلت . فهم قدموا البرهان على أنّ من الممكن مواجهة الطغيان فكسروا حواجز الخوف من الحاكم والإذعان للاستبداد كقدر محتوم فامتدت نيران ثورتهم المظفرة كالهشيم لتغيير وجه المنطقة كلها .سوف يترتب على علماء السياسة إعادة النظر بالكثير من المفاهيم والمسلمات قبل أن يقدموا تفسيراً علمياً لما حصل . وفي فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، سارعت مراكز أبحاث جامعية إلى دعوة أساتذة من العالم العربي (وكاتب هذه السطور منهم) للمشاركة في أبحاث أكاديمية مشتركة حول مفهوم ldquo;الشعبrdquo; والثورة ldquo;العفوية التلقائيةrdquo; التي تندلع من دون قائد أو حزب أو إيديولوجيا .

من تونس انطلق الشعار الذي ستحمله شعوب شقيقة في التاريخ والحضارة واللغة والمعاناة: ldquo;الشعب يريد إسقاط النظامrdquo; .

ومنها ارتفع صوت نشيد الشاعر التونسي الراحل ابو القاسم الشابي الذي حفظنا كلنا في صغرنا قصيدته التي تبدأ ب ldquo;إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدرrdquo; . في غضون أسابيع قليلة أثبت التونسيون بالفعل لا القول أن القدر يستجيب للشعوب التي تريد الحياة وتستعد لصعود الجبال لأنها سئمت العيش بين الحفر . ويمكن القول من دون مجازفة أنه لولا الشهيد محمد البوعزيزي وقادة الجيش، الذين رفضوا أوامر الدكتاتور، والشعب التونسي عموماً لكنا لانزال اليوم نرزح تحت قيادات مبارك والقذافي وابن علي وصالح .

أكثر من ذلك فإن الثورة التونسية تمكنت في غضون عام واحد فقط من تشكيل مجلس تأسيسي وحكومة توافقية وبرلمان وانتقال سياسي يتجه صوب التحول الديمقراطي . فعادة ما تقف الثورات عند حد الإطاحة بالنظام لتبدأ مرحلة انتقالية تسيل فيها دماء كثيرة وتطير رؤوس كبيرة قبل أن يرى نظام جديد النور،وهو نظام قد يكون ديمقراطياً وقد لا يكون . في علم السياسة نميز بين الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي وشتان ما بينهما . وفي تونس تم الانتقال السياسي بسرعة ملفتة ومن دون تكاليف رغم محاولات الانقلاب على الثورة والتي سارع الشعب إلى التصدي لها مطيحاً بمحاولات الإبقاء على النظام البائد في حلة جديدة .

ليس من الضرورة بمكان أن تفضي الثورة على الدكتاتورية إلى نظام ديمقراطي،كما يدل تاريخ الثورات على الإجمال . لكن في تونس يبدو أننا إزاء استثناء تاريخي . فالانتخابات التي كانت حرة نزيهة بكل المعايير رفعت الاسلاميين إلى السلطة ومعهم ليبراليون ويساريون وعلمانيون . والظاهرة يمكن تفسيرها إذ إن من عانوا الأمرين واضطهدوا وسجنوا وطردوا خلال العقود الصعبة المنصرمة كوفئوا على يد الشعب (ذي الثقافة الاسلامية بالمناسبة) الذي انتخبهم في غياب زعماء قادوا الثورة في الميدان .ولم تفض الانتخابات إلى صراعات وفوضى ورفض لنتائجها، بل إلى انتقال هادئ عبر تحالف بين الاسلاميين واليساريين والليبراليين،وهذا بحد ذاته إنجاز كبير من دون الحكم على النوايا والهواجس المتعلقة بمستقبل النظام وسياساته لاسيما العربية .وفي هذا الإطار فإن تصريحات القادة الجدد تتفق على إعادة إحياء الاتحاد المغاربي، والعلاقة الجديدة مع دول الجوار تدفع إلى التفاؤل .

جاهل أو ساذج من توقع أن تنتهي المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تونس بمجرد انتصار الثورة وتغيير النظام . وظالم من يحاسب حكومة عمرها أسابيع على واقع موروث من عقود طويلة مظلمة . إن ldquo;إسقاط النظامrdquo; شيء وهو ما تحقق ببطولة وتضحيات، وrdquo;بناء النظامrdquo; الجديد مهمة أكثر من صعبة وتتطلب تضافر كل الجهود، لكنها ليست بمستحيلة لشعب صنع معجزة وابتدع نموذجاً فريداً في تاريخ الثورات .