مالك التريكي


'من أنتم؟' سؤال أصبحت شهرته في شهرة القذافي منذ طرحه على شعب لم يكن موجودا البتة لكنه قرر أن يولد فجأة لمجرد أن يكيد العقيد ويشوش على البث. سؤال قد تحكم عليه هذه الملابسات القذافية بأن يبقى متلبسا، لزمن بعيد، بنفس ميتافيزيقي لم يقصده الشاعر عندما أنشد مستفسرا ومستنكرا. لكن سؤال 'من أنتم؟' سؤال مشروع. بل إنه قد يصبح سؤالا ضروريا إذا كان السائل حكومة منتخبة ديمقراطيا، وكان المسؤول مؤسسة إعلامية غير ديمقراطية، أي لا يتم اختيار مديرها ورئيس تحريرها بالانتخاب بل بالتعيين الفوقي.
إذ إن من كبريات مفارقات المجتمعات المعاصرة أن المؤسسات الإعلامية التي تراقب عمل المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا، مثل البرلمان والحكومة والرئاسة، لا تزال في مجملها في حل من الديمقراطية الداخلية! حيث أن معظم المؤسسات الإعلامية، الحكومية منها والخاصة، لا تتيح لموظفيها من صحافيين وفنيين وإداريين حق اختيار المديرين ورؤساء التحرير بالاقتراع السري الحر والمباشر. بل إن مالك المؤسسة الإعلامية، أو الوزير، هو الذي يعين المدير بقرار لا يستشار فيه أي من الموظفين. ثم يقوم المدير المعين هو بدوره بتعيين رئيس تحرير من اختياره الشخصي. ولهذا فليس من المفاجىء أن تكون كثير من المؤسسات الإعلامية تعاني من أزمة شرعية داخلية. وأزمة الشرعية تكفي، بحد ذاتها، لتفسير انعدام الديمقراطية وحرية التعبير في صلب مؤسسات إعلامية لا تني تطالب المجتمع والدولة وجميع السلطات باحترام الشرعية والديمقراطية وحرية التعبير!
صحيح أن سلطوية التعيينات (في مقابل شرعية الانتخابات) ليست حكرا على وسائل الإعلام بل إنها قاعدة تسري، إلا باستثناءات نادرة، على جميع المؤسسات الاقتصادية.
لكن هنالك سببين على الأقل لنقد استمرار هذه الممارسة السلطوية، الناقضة'لمنطق الثقافة الديمقراطية المعاصرة، في صلب وسائل الإعلام. السبب الأول هو أن المؤسسات الاقتصادية ذاتها قد بدأت تخضع أنماط إدارتها التقليدية للمراجعة النقدية بهدف انتهاج مزيد من الديمقراطية.
وليست الديمقراطية، كممارسة فعلية في صلب مكان العمل، فكرة جديدة. بل إنها ظهرت منذ القرن التاسع عشر (خاصة أثناء انتفاضة كومونة باريس). كما أنها شهدت تجارب إحياء وتجديد متنوعة تحت عنوان 'الإدارة الذاتية' (خاصة أثناء بعض فترات حكم تيتو في يوغسلافيا). وقد بينت إصدارات فرنسية حديثة حول الموضوع أن نجاعة المنشآت والمؤسسات وإنتاجيتها وقدرتها على التجديد والتجويد إنما تزداد عندما يصبح العمال والموظفون طرفا مشاركا في اتخاذ القرار. واتضح أن المؤسسات الاقتصادية التي بدأت تأخذ بمبادىء الإدارة الذاتية تتيح جميعها للعمال والموظفين حق اختيار مسؤوليهم ومديريهم بالانتخاب كل عامين، وأن أحد أهم معايير تقييم العمال والموظفين لهؤلاء المسؤولين والمديرين عند انتهاء ولايتهم هو مدى ما يتيحونه لمرؤوسيهم من هامش استقلالية في العمل.
والسبب الثاني أن الوسيلة الإعلامية ليست مجرد مؤسسة اقتصادية عادية تعيد إنتاج السائد الاجتماعي بمواريثه السلطوية وأمراضه التسلطية. بل إن من واجبها، في أي سياق ديمقراطي، أن تكون مؤسسة سياسية، بل حقوقية، بامتياز. بأي معنى؟ بمعنى أن في وسع الوسيلة الإعلامية أن تكون سلطة ناقدة للسلطات والفئات والمجتمعات، أي سلطة منتجة للقيم. ولا يمكن لها أن تضطلع بهذا الدور، الأخلاقي في جوهره، إلا إذا التزمت هي ذاتها بما تريد أن تلزم به الحكومات والبرلمانات. أي أن أزمة الشرعية داخل المؤسسات الإعلامية لا يمكن علاجها إلا بما تعالج به أزمة الشرعية في الأنظمة السياسية: بالاقتراع الحر.
والحق أني لم أكن أعرف، حتى قبل مدة قصيرة، أي مؤسسة إعلامية غربية يختار مديرها العام أو رئيس تحريرها بالانتخاب، بدل التعيين، إلا شهرية 'لوموند ديبلوماتيك'. إلا أن من دواعي الإعجاب أن صحافيي جريدتي 'الصباح' و'لابريس' والتلفزة الوطنية في تونس قد تمكنوا أخيرا من انتزاع حقهم في اختيار قيادييهم بالاقتراع الحر. أي أنه قد صار من الممكن في بعض المؤسسات الإعلامية العربية اليوم أن يقال للمسؤولين المفروضين بالتعيين السلطوي: إذا لم تكونوا منتخبين، فبالله عليكم..laquo;'من أنتم؟