Michael Hanna

أكدت موجة الثورات أن التضامن العابر للبلدان (بالإضافة إلى مشاركة الفضاء الإعلامي والروابط السياسية) لا يزال يلعب دوراً مهماً بالنسبة إلى الرأي العام العربي، مع أن الوعود الكبرى بترسيخ مشاعر القومية العربية لطالما كانت تفتقر إلى المصداقية.
بعد سنة صاخبة شهدت سقوط طغاة عرب وانسحاب القوات الأميركية من العراق، سعى مؤيدو عملية الغزو في عام 2003 (منهم نائب الرئيس السابق ديك تشيني والأكاديمي المحافظ فؤاد عجمي) إلى تصوير قرار إسقاط نظام صدام حسين وكأنه الدافع الخفي وراء أحداث الربيع العربي. تزامناً مع الذكرى الأولى لسقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، لِمَ لا نحاول تخيل ما كان ليحصل لو اختلفت الأحداث التاريخية بدل إعادة النظر بالمعطيات التاريخية التي حدثت فعلاً: لو أن الولايات المتحدة امتنعت عن غزو العراق، هل كان نظام صدام حسين البعثي ليبقى قائماً في الشرق الأوسط اليوم؟
لا شك أنه سؤال شائك، إذ يصعب أن نتخيل معالم المنطقة لو لم يحصل التدخل العسكري الأميركي في العراق، إذ أدت الحرب بحد ذاتها إلى نشوء اختلالات إقليمية، وتحديداً من خلال ترسيخ وتوسيع المفاهيم السيئة عن الهوية الطائفية. لقد اتضح أن المنطقة ستتأثر كثيراً بفعل تزايد النفوذ الإيراني وتوسّع تداعيات الحرب الأهلية الوحشية التي شهدها العراق في عامَي 2006 و2007، وستكون تلك الانعكاسات بارزة في سورية والبحرين تحديداً.
ومع ذلك، تكشف الأجوبة المحتملة على هذه الأسئلة الافتراضية طريقة تطور الشرق الأوسط منذ الأيام التي أقدم فيها صدام حسين على قمع الانتفاضة الشيعية والكردية بكل وحشية في عام 1991، وقد التزم العالم العربي الصمت حينها. في الوقت نفسه، يساهم موقع العراق الاستراتيجي ومظاهر الانقسام الطائفي فيه في تسليط الضوء على الوقائع الجيوسياسية التي لا تزال تعيق مسار التحولات الإقليمية.
لولا حصول التدخل الأميركي، كان صدام حسين على الأرجح سيحافظ على سلطته القمعية في بلده، فعلى الرغم من احتواء طموحاته الإقليمية وتهديداته بفضل العقوبات الصارمة، بقيت الجماعات المعارِضة لحكم صدام منقسمة وغير فاعلة حتى حصول التدخل بقيادة الولايات المتحدة.
كانت الجهود الحثيثة الهادفة إلى نشر الاضطرابات الداخلية من جانب المؤتمر الوطني العراقي (منظمة تابعة للمعارضة العراقية في المنفى) كارثية بمعنى الكلمة، كذلك، لم تكن المعارضة الداخلية قادرة على تهديد النظام جدياً، وعندما قُتل آية الله محمد صادق الصدر (رجل دين شيعي محترم ينتمي إلى فئة سياسية محددة) على يد النظام في فبراير 1999، خمدت أعمال الشغب القصيرة الأمد سريعاً. كشفت التداعيات اللاحقة أن الانقسامات المترسخة بين المعارضة الشيعية الداخلية والخارجية كانت ستقف في طريق أي جهد يهدف إلى الإطاحة بالنظام.
لكن لا يعني ذلك أن النظام ما كان لِيسقط مطلقاً، فنظراً إلى اشتداد المشاكل وقمع الشعب واستفحال الفقر، كان من المتوقع أن يكون العراق جزءاً من موجة الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة في السنة الماضية.
فقد أكدت موجة الثورات أن التضامن العابر للبلدان (بالإضافة إلى مشاركة الفضاء الإعلامي والروابط السياسية) لا يزال يلعب دوراً مهماً بالنسبة إلى الرأي العام العربي، مع أن الوعود الكبرى بترسيخ مشاعر القومية العربية لطالما كانت تفتقر إلى المصداقية. كانت هذه الظاهرة ستشمل العراق أيضاً. صحيح أن الجهود التي بُذلت قبل الغزو من جانب المعارضة العراقية الداخلية والخارجية فشلت في نهاية المطاف، إلا أنها كانت تجسد سياسة المعارضة بامتياز، كما أن وجود ملجأ كردي آمن كان سيوفر مساحة فاعلة للتخطيط لتنفيذ نشاطات ضد النظام، بل كانت أسس الانتفاضة ستتوافر بشكل أساسي في العراق أكثر من تونس.
لو اندلعت أي انتفاضة مماثلة، لكان المسار الذي يضمن تغيير النظام العراقي سيشمل تحركاً عسكرياً بقيادة الولايات المتحدة لدعم الأطراف المحلية، وبغض النظر عن الإرث الذي خلفته حرب العراق الكارثية، كان التدخل الخارجي (حتى لو لم يحصل على إذن قانوني) سيصبح خياراً جدياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها في مطلق الأحوال، كما حصل مع معمر القذافي في ليبيا، كان الأميركيون وشركاؤهم سيستغلون الفرصة للإطاحة بعدو قديم.
غير أن الظروف المؤاتية التي مهدت لنشوء الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يبرر التدخل العسكري في ليبيا بقيادة حلف الأطلسي ما كانت لتنطبق في العراق.
كانت روسيا والصين ستعبران عن تحفظهما على التدخل في شؤون العراق الداخلية، وكانتا ستعيقان منح إذن قانوني لتنفيذ تحرك عسكري ضد النظام. في نهاية المطاف، لا يمكن اعتبار أن معارضة روسيا والصين للخطوات العدائية المتعددة الجوانب ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد هي مجرد تعبير عن استيائهما من طبيعة الحملة الليبية الموسّعة، بل إنها جزء من مفهومهما المترسخ عن الأولويات الاستراتيجية وسيادة الدول.
كان تدخل دول المنطقة في العراق خياراً مستبعداً. صحيح أن حرب العراق أعادت إحياء المفاهيم الشعبية عن الهوية الطائفية، لكن لطالما كانت السياسة الإقليمية تتحدد بفعل النزعة الطائفية والخصومات الإقليمية. على سبيل المثال، دعمت المملكة العربية السعودية صدام حسين في حربه ضد إيران خلال الثمانينيات لأنها كانت تعتبر أن إيران الثورية التي تسعى إلى تصدير النظام الديني الشيعي تطرح خطراً أكبر من العراق الذي يطمح إلى الهيمنة على المنطقة. لا شك أن تلك الاعتبارات المرتبطة بميزان القوى كانت ستدعو حلفاء الولايات المتحدة في دول الخليج إلى توخي الحذر في وجه الانتفاضة التي يقودها الشيعة والأكراد ضد نظام صدام السني. وكان مجرد احتمال أن توسع إيران نفوذها بعد الإطاحة بصدام حسين سيُسقط أي إجماع إقليمي يدعم الحركة الاحتجاجية العراقية. كذلك، كانت المخاوف من نشوء كردستان المستقلة واحتمال تجدد الطموحات القومية الكردية داخل تركيا لِتدفع القادة الأتراك إلى معارضة التدخل الأجنبي.
يشهد العالم العربي الآن أول المؤشرات على بذل جهود تهدف إلى إرساء معايير إقليمية لمحاربة القمع الدكتاتوري وأعمال العنف. على المستوى الشعبي، لم تعد المواقف الحادة من إسرائيل والولايات المتحدة تكفي للتغطية على أعمال الذبح ضد الشعوب، وقد اتضح هذا الأمر انطلاقاً من ردة فعل المنطقة تجاه حملة القمع الوحشية التي يشنها الأسد ضد المحتجين، لكن في حال حدوث انتفاضة في العراق، كانت تلك الاعتبارات ستسقط أمام المخاوف الاستراتيجية.
وحتى في سورية، حيث سعت جامعة الدول العربية على عكس التوقعات إلى التدخل عبر تعليق عضوية دمشق وإرسال بعثة من المراقبين إليها، بقي الحذر سيد الموقف على الرغم من المنافع التي كانت ستحصدها الأغلبية السنّية في البلد بعد تغيير النظام. كذلك، عمد العراق فجأةً إلى إصلاح علاقاته المتدهورة سابقاً مع سورية وعارض أي جهود إقليمية للتدخل فيها بسبب مخاوف الحكومة الشيعية من نشوء حكم سنّي إسلامي على حدودها.
يشكل الصراع الراهن بين الأغلبية الشيعية المحاصرة في البحرين والنظام الملكي السنّي بقيادة آل خليفة خير مثال على هذا الوضع أيضاً. فقد أضعف الانقسام الطائفي المفاهيم الشائعة عن التضامن، واعتبر الكثيرون ممن يؤيدون التحولات الإقليمية أن البحرين لها وضع مختلف عن الانتفاضات العربية الأخرى.
عبّر العالِم السنّي البارز يوسف القرضاوي مثلاً عن دعمه لمحاولات إسقاط الحكام الدكتاتوريين في أنحاء المنطقة، ولكنه تردد في إبداء الموقف نفسه عند بروز احتمال قيام حركة شيعية معارِضة في البحرين، فقال إن البحرين لا تشهد أي ثورة شعبية بل إن التحرك فيها له أبعاد طائفية. بالطريقة نفسها، كان التهويل بالصراع الطائفي سيُضعف الدعم لأي انتفاضة عراقية يمكن أن تعزز نفوذ الأغلبية الشيعية في البلاد.
لولا حدوث التدخل العسكري الأجنبي، لكانت مسألة تغيير النظام ستُحسَم وفق ميزان القوى الداخلي في العراق ومدى قدرة الثوار على إسقاط النظام. اتضح من الانتفاضة ضد نظام الأسد أن النتائج الإيجابية في ظل الظروف الراهنة لن تكون مؤكدة إلا إذا حصلت انشقاقات على أعلى المستويات. بعد أن ساهمت الانشقاقات السرية في تفعيل عملية الغزو الأميركي في عام 2003، كانت الثورة الشعبية في عام 2011 ستؤدي إلى ترسيخ قوة النظام القائم. الأمر المؤكد هو أن النظام كان سيستعمل قوته الطاغية والمتفاوتة لسحق أي مؤشر على اتساع حركة المعارضة. في وجه أعمال العنف العشوائية، كان ثوار العراق سيفشلون على الأرجح.
بغض النظر عن الإرث المرير الذي خلّفته حرب العراق والأسس المشبوهة التي أدت إلى إطلاق تلك الحرب في المقام الأول، كان الأميركيون وحلفاؤهم سيتحركون عسكرياً لمساعدة الثوار وإسقاط صدام حسين، مع أخذ إذن صريح من الأمم المتحدة أو من دونه. تكمن المفارقة الكبرى في واقع أن مؤيدي التحرك الأميركي العسكري الحر والأحادي الجانب كانوا سيخلقون ظروفاً ستحد الآن من قدرة الولايات المتحدة على فرض نفوذها بسبب تهورهم وقراراتهم السيئة.
بدأ الشرق الأوسط يغير أساليبه الجوهرية على الرغم من الضوابط الجيوساسية والانحياز الطائفي الذي لا يزال يوجه معظم القرارات في المنطقة، وعلى الرغم من جميع التحولات التي أحدثها الربيع العربي، فإن الانتفاضة العراقية في عام 2011 (في ظل غياب أي تدخل خارجي) ما كانت لتسير في اتجاه مختلف عن الثورة التي قمعها صدام حسين في عام 1991.