غسان شربل


زميلك البريطاني غاضب. يتابع الأرقام ويزداد قلقاً. قال إن الأزمة المالية ليست عابرة. تحتاج الى سنوات، هذا إذا كانت المعالجة جدية. يقلّب الصحف وتستوقفه أخبار الإفلاسات. ارتفاع معدل البطالة، واضطرار الحكومة الى المزيد من شد الأحزمة، وتقليص الإنفاق. قال إن جيش العاطلين من العمل سيتضخم، ولهذا الواقع أثمان اقتصادية واجتماعية وسياسية. وإن الإنفاق على القطاع الصحي سيخضع للمزيد من الرقابة. ولن ينسى الإنفاق على تطوير التعليم والبحث العلمي بسخاء. وأن البريطانيين سيضطرون الى تقليص عطلاتهم في الخارج. قال إن الثقة التي يمحضها الشعب لحزب معيّن، تُلزِم الحزب العثور على حلول خلاّقة لمشاكل المواطنين.

استمعت الى شرحه الطويل باهتمام. المشكلات التي يتحدث عنها يومية وحياتية وتمس الحاضر والمستقبل. وعلى رغم ذلك شعرت أن معاناته بسيطة. رحت أفكر في ما يمكن أن تكون عليه حال رجل مثله يعيش في صنعاء. قد يكون اليمني مبتهجاً بانتقال صلاحيات الرئيس الى نائبه، وباستمرار الاهتمام بإنجاز المرحلة الانتقالية، لكن حقه في الخوف والذعر والقلق يفوق بالتأكيد حق البريطاني. همّه الأول أن يبقى حياً. فالبلاد تعيش بلا ضمانات أو مؤسسات.

تصوّر يا عزيزي البريطاني لو كنتَ ولدتَ هناك. ثوار في الساحات يهتفون ضد منح الرئيس الحصانة. وطباخو الحل يعرفون أن تغييب الحصانة سيطيل الآلام، وسيدفع الرئيس وأنصاره الى المجازفة بمواجهة الموجة العارمة. وهذا يعني حرباً أهلية في بلاد خاوية الخزينة. ويعني أن تعثر laquo;القاعدةraquo; على مزيد من المعاقل والملاذات. وأن تزداد رغبة الحوثيين في التمدد أو الفوز بما يشبه الإقليم. وأن تتضاعف رغبة سكان الجنوب في الطلاق، والعودة الى النوم في كنف دولتهم. وكل هذا يعني أنهاراً من الدم.

تصوّر يا عزيزي البريطاني لو كنتَ ولدتَ في بغداد... وشاء حظك العاثر أن تقيم في حي لا تنتمي غالبية سكانه الى مذهبك. وأنك لا تملك القدرة على الانتقال للإقامة في حي يشبهك. وأنك تتابع على الشاشة هذه الولائم الدموية الجوالة بين المدن والأحياء. العمليات الانتحارية. والعبوات اللاصقة. والمسدسات مع كواتم الصوت. والاعتقالات. والتعذيب. والسباحة في بحر الفساد... والمعارك السياسية المطبوخة بنكهة مذهبية صارخة.

تصوّر يا عزيزي البريطاني لو كنتَ ولدتَ في سورية. ماذا كنتَ لتفعل في هذه الأيام، وماذا تقول؟ ولنفترض أنك محايد وتتابع، بعد إسدال الستائر، laquo;الجزيرةraquo; أو laquo;العربيةraquo;. والتقارير عن القناصة والشبّيحة والعصابات المسلحة ومشاهد الدم يتدفق في الشوارع، ثم مشاهد الجنازات والهتافات ومقدمات الحرب الأهلية في هذه المدينة أو تلك.

تصوّر يا عزيزي البريطاني لو أنك ولدتَ في لبنان. في بلاد معلّقة. الدولة فيها شبه دولة. والحكومة شبه حكومة. والبرلمان شبه برلمان. والأمر ذاته يصدق على القضاء والمؤسسات الأمنية. محطة انتظار تضم خليطاً من الطوائف والمذاهب والشاشات والبرامج المعلنة والميول السرية. محطة تنتج التوتر وتستورد التوتر. أقوى زعمائها القلق والخوف من الأيام المقبلة. محطة جميلة وغريبة. يلعب سكانها قرب الزلزال السوري، ويتعاملون معه كمن ينتظر نتائج مباراة في الملاكمة. ينقسمون بين اللاعبين ويذهبون بعيداً في الحماسة والرهانات. ولا غرابة، فنتائج المباراة سترخي بظلّها وثقلها على المحطة التي صاغت سورية ملامحها الحالية وإن تكن خالطتها في السنوات الأخيرة لمسة إيرانية مميزة. كان باستطاعة اللبنانيين أن يردّوا على الزلزال المجاور بتحصين المحطة وترميم الدولة والعودة من المشاريع والرهانات التي تفوق قدرة لبنان على الاحتمال. غداً إذا انتقلت النار الى المحطة، ستندلع الحرائق في بيوتهم وثيابهم.

كدت أقول للزميل البريطاني إن معاناته مخملية. وإن عليه أن يبتهج لأن ديفيد كامرون لا يستطيع إرساله الى القبر بإشارة من يده. ولأن ابنه لا يمكن أن يختفي في ظروف غامضة. ولأن ضابط الاستخبارات لا يستطيع استدعاءه ومصادرة بعض أسنانه وأظافره. ليت مشاكلنا تتعلق بتقليص الإجازات. إنها تتعلق بتقليص أوطاننا وتفكيك الجسور بين مكوناتها وبتقليص أعمارنا ودفع أطفالنا الى سجون التعصب والفقر والنحر والانتحار. يكفي عزيزي البريطاني أنك تنام في ظل حكم القانون ودولة ومؤسسات.

نحب بلداننا. هذا صحيح. لكنها مقابرنا أكثر مما هي أماكن عيشنا. نحبها وتغدرنا. استقرارها مغموس بالظلم والخوف والإذلال. وأي محاولة لفتح النوافذ تفتح الباب لمجزرة. كأنها تستعذب الاغتسال بدمنا.