إياد أبو شقرا


laquo;أسوأ أنواع الألم هو ذلك الذي يواكب الكثير من الوعي.. والقليل من القدرة على تغيير الواقعraquo;.. (هيرودوتس)

بكى رئيس الحكومة اليمنية محمد سالم باسندوة، بالأمس، وهو يناشد البرلمان اليمني منح علي عبد الله صالح الحصانة من الملاحقة القضائية. وقبله، بكى فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان - في حينه - إبان مناشدته العرب والعالم التصدي بحزم للعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006.

جميل أن يكون عند الساسة شيء من الشعور، ولمسة من عاطفة.. في عصر سيادة الجزارين والجلاوزة وlaquo;الشبيحةraquo; وlaquo;البلطجيةraquo;.. من كل الفصائل والتخصصات.

باسندوة بكى متألما لأنه في قرارة نفسه كان يدرك جيدا أن من يطلب له الحصانة لا يستحقها، وأن الذين يطلب منهم ذلك وهم المفترض بهم أنهم ممثلو الشعب.. كان عليهم هم المبادرة إلى سحب ثقتهم من علي عبد الله صالح، ومن ثم محاكمته على ما جنته يداه، وأيدي أبناء عائلته بحق الشعب اليمني على امتداد عقود.

ومن قبله، أيد حزب الله اللبناني، الذي كان قد أشعل الفتيل الذي استغلته إسرائيل لشن عدوانها على اللبنانيين عام 2006، جهود السنيورة المفضية إلى وقف الحرب، وكافأه عليها رئيس مجلس النواب نبيه بري بمنحه لقب laquo;رئيس وزراء المقاومةraquo;، قبل أن يجعل laquo;الحزبraquo; وأنصاره من بكاء السنيورة مسألة تندر.

إنها أيام عصيبة، يأمل المتفائل منا أن تكون كالليل الذي تدلهم ظلمته أكثر ما تدلهم قبل انبلاج الفجر. فنحن نعيش مرحلة صعبة ومؤلمة، يسود فيها من لا يستحق أن يسود، وتقوم فيها خيارات الناس إما على اليأس وإما على الهروب من المسؤولية.. أو الجهل المطبق، أو النكاية ورد الصاع صاعين.

نحن، بكل صراحة، لا نعيش laquo;ديمقراطيةraquo; واعية.. أزهرت وأثمرت بعد إطلالة laquo;الربيع العربيraquo;، بل نمر بمخاض عسير، قد يطول أو يقصر، ولا بد أن يشهد خوضنا مسار laquo;التجربة والخطأraquo;، وهو مسار مليء بالرهانات الخاطئة والآمال الهشة، بل والإنكار المتعمد أحيانا.. بكل ما تحمله من إحباطات وخيبات وآلام.

مشكلتنا الفظيعة لا تنحصر في إفراز مجتمعاتنا قيادات دموية فاشية من نوعية علي عبد الله صالح وبشار الأسد ومعمر القذافي وجعفر نميري وصدام حسين وغيرهم، ولا في ظواهر مدمرة مثل التعصب الديني والمذهبي والعرقي، فحسب.. بل تتبدى أيضا بصورة مخيفة في أولئك الذين يدافعون عن هذه القيادات ويفلسفون laquo;نضالاتهمraquo;، أو يبررون ردات الفعل الشعبية الانتحارية.. الهاربة، باسم الديمقراطية، من ديكتاتورية الفرد إلى تسلط الطائفة والمذهب والانغلاق الإقصائي الإلغائي.

نحن بكل بساطة نضع حق الإنسان بالعيش الكريم، بمعزل عن لونه وجنسه وعرقه ومعتقده، في ذيل اهتماماتنا. وهنا نسقط سقوطا أخلاقيا كبيرا، فنفقد أي حق بانتقاد الآخرين على تحاملهم علينا وعنصريتهم تجاهنا. إذا كنا لا نقيم وزنا لأنفسنا ونرى دماء أهلنا رخيصة.. هل يجوز لنا أن نحاسب الغير؟

خلال الأسبوع الفائت، على سبيل المثال، شد وفد من أدعياء laquo;النضال القوميraquo; الممانع وlaquo;العروبةraquo; المفترى عليها الرحال إلى العاصمة السورية دمشق لإبداء الدعم والتأييد لنظام الرئيس بشار الأسد، وهو الذي قتل حتى هذه اللحظة نحو عشرة آلاف مواطن سوري وزج في السجون أضعاف أضعافهم.. بالإذن من شهادة laquo;قيدوم المراقبينraquo; وlaquo;فارس فرسان دارفورraquo; الجنرال محمد مصطفى الدابي.

الوفد الموصوف بـlaquo;القوميraquo;، الذي صدح بالفم الملآن منددا بالتدخل الأجنبي ومهاجما الساعين إليه، ترأسه السفير الليبي السابق عبد القادر غوقة، الذي نسي - كما يبدو - أن ابنه عبد الحفيظ غوقة (الذي استقال أمس) صار نائبا لرئيس المجلس الانتقالي الليبي في عهد ما بعد القذافي.. نتيجة التدخل الحربي الأجنبي!

كذلك ضم الوفد نفرا من تجار العروبة الذين تنعموا طويلا بخيرات بلاط صدام حسين، قبل أن يوظفهم laquo;شبقraquo; العروبة وlaquo;هاجسraquo; الممانعة في خدمة الذين عملوا على إزاحة صدام باستدعاء التدخل الحربي الأجنبي، ومن ثم شنق صدام.. والعراق لا يزال تحت سلطة الاحتلال.

أليس مخجلا أن يحتكر مثل هؤلاء شعارات laquo;العروبةraquo;، فيمسخونها ويهبطون بها إلى أن تصبح مرادفا للاستزلام والشوفينية وامتهان حقوق الإنسان وكرامته؟!

وماذا عن الدكتور المنصف المرزوقي، المناضل والطبيب الإنساني النقي، الذي استحق تولي رئاسة تونس؟ ماذا عن خبرته الممتازة بنظام بشار الأسد وlaquo;شبيحتهraquo;.. وهو الذي ظهر قبل أشهر معدودة من انتخابه على إحدى الفضائيات العربية لفضح عميل استخبارات صغير بدرجة laquo;محلل سياسيraquo;، فمسح به الأرض؟

أليس غريبا أن تفتر همته، فيتقاعس عن نصرة أبناء سوريا، بل ويحبط آمالهم، بحجة تحاشي الفتنة الطائفية.. وهو الذي عقد للتو صفقة لتقاسم السلطة في تونس مع إسلامييها؟!

ما كان مطلوبا من الرئيس المرزوقي إطلاقا مباركة التدخل الأجنبي. أبدا، ليس هذا هو المطلوب، ولكن في مثل ظرفه قد يصح السكوت وكظم الغيظ، عملا بقول جبران خليل جبران:

ومن التناهي في الفصاحة تركها والوقت وقت الخطبة الخرساء

إن العقل العربي، وبالذات في صفوف أولئك الذين يعتبرون أنفسهم laquo;مثقفينraquo; وlaquo;رواد فكرraquo;، لقاصر جدا إذا تجاهل وجود علاقة مباشرة بين ديكتاتورية الفساد الفردي والعائلي.. وهرب الناس لاجئين إلى أحضان الجماعات الأصولية، سنية كانت أو شيعية.

التعصب والإلغاء ليسا حكرا على دين أو مذهب، تماما مثلما أن الفساد والدموية ظاهرة معروفة في كل مكان وزمان.

في أوروبا ظهر أدولف هتلر وبنيتو موسوليني وفرانشيسكو فرانكو وأنطونيو سالازار.. وغيرهم وغيرهم.. يمينا ويسارا. وفي إسرائيل نرى اليوم بأم العين كيف تشوه laquo;الديمقراطية الانتخابيةraquo; لمصلحة هالة الجنرالات التاريخيين وغلو جماعات الاستيطان الاستعماري التوراتيين. وفي الهند شاهدنا ما حدث للمسجد البابري في آيوديا، وتداعيات تلك الجريمة المتمثلة في ولاية غجرات، وصولا إلى تفجيرات مومباي.

مختصر مفيد، إن التغاضي عن جرائم الديكتاتوريات وإيجاد الأعذار لهم.. طريق مضمون لتعجيل الهروب إلى الأصولية، فإلى متى نحاول تكرارا اكتشاف العجلة؟