عبدالله خليفة الشايجي

استكمالًا لمقالنا في الأسبوع الماضي: quot;أوباما آخر رؤساء الإمبراطورية الأميركية؟!quot;، نستحضر قول الشاعر العربي: quot;ولم أرَ في عيوب الناس عيباً... كنقص القادرين على التمامquot;، فما يميز الولايات المتحدة، بحضورها وقوتها الناعمة، هو فرادة وتقدم نظامها. ولاشك أنها تملك الكثير من القوة الصلبة العسكرية التي تناولتها هنا في عدة مقالات، وعلى رغم التراجع في دورها ومكانتها وهيبتها، فإنها لا تزال تنفق أكثر من نصف تريليون دولار سنويّاً على الدفاع والتسلح، وهذا أكثر مما تنفقه معاً الدول العظمى والنووية العشر التالية للولايات المتحدة. وهي كذلك تمتلك قوة أخرى تسمى quot;القوة الناعمةquot; وهي قوة المثال والقدوة والتأثير والاقتناع. ومعنى الاقتناع وجود قناعة لدى طرف ما بأن ما لدى طرف آخر، أو شعب آخر، مبدع ورائع كنظام أو حقوق أو إنجازات، ومن ثم يتمنى الطرف الأول أن يكون لديه نموذج مماثل! إلا أن أميركا مع ذلك لم تنجح في صهر ودمج هاتين القوتين، ولم تستفد بالقدر الكافي من quot;القوة الناعمةquot; التي تكلمت عنها وزيرة الخارجية الأميركية في جلسة تنصيبها أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي حيث أسمتها quot;الدبلوماسية الذكيةquot; أو القوة الذكية. وحتى وزير الدفاع الأميركي السابق quot;روبرت جيتسquot;، طالب هو أيضاً بزيادة ميزانية الخارجية الأميركية لتساهم في تعزيز صورة وسمعة الولايات المتحدة، وخاصة بعد أن اهتزت سمعتها بسبب الأخطاء التكتيكية، إذا استخدمنا تعبير وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس، ولا تقل عن ذلك أيضاً الأخطاء الاستراتيجية، وحتى الأخلاقية وآخرها شريط تبول بعض جنود quot;المارينزquot; على جثث مقاتلين من quot;طالبانquot;.وفي ضوء ذلك كله تبدو الولايات المتحدة في وضع محرج ومتراجع، وعاجزة عن استكمال إنجازاتها وحماية مصالحها وتحقيق أهدافها. وهذا يحدث في وقت تستعد فيه عمليّاً للدخول في أتون وحمى انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستستنزف جميع مكنونات واهتمامات المسؤولين والأحزاب والقوى السياسية والإعلام الأميركي على مدى عام كامل مع ما يترتب على ذلك عادة من إغفال شبه كلي للشأن الخارجي، الذي ستنكمش عنه أميركا أكثر بعد الانسحاب من العراق وبدء سحب قواتها من أفغانستان، وتخفيض موازنة الدفاع، وتبني مبدأ القيادة من الخلف كما فعلت في حرب ليبيا، على عكس ما فعلت في حربي أفغانستان والعراق. ولاشك أن الانكفاء الأميركي يتيح فرص الحضور للاعبين دوليين وإقليميين آخرين، وليس خلواً من المعنى في هذا المقام أن قائد فيلق القدس الإيراني تفاخر مؤخراً بأن بلاده حاضرة في العراق وجنوب لبنان، وأن هذين البلدين يخضعان بشكل أو آخر لإرادة طهران وأفكارها. وأن بإمكانها تنظيم أي حركة تؤدي إلى تشكيل حكومات إسلامية هناك بغية مكافحة الاستكبار.

ولا حاجة للتذكير أيضاً بأن الحروب الأميركية في المنطقة قد أخلت بتوازن القوى، ولم تساعد على إيجاد مناخ من الأمن والاستقرار، وبالتالي لم يتم خفض حدة التوتر والعسكرة. ومما يؤخذ على الولايات المتحدة كذلك منذ أن انهمكت في الشرق الأوسط، متدخلة ومدافعة عن مصالحها، وتحالفاتها مع شركائها، هذا مروراً بمواجهاتها المتعددة مع خصومها، فشلها في المنطقة في تحقيق نتائج ناجزة في مجالي السلم ونشر الديمقراطية، وقد فشلت بذات الدرجة أيضاً في أن تكون قوة إقناع ونموذجاً يُحتذى من قبل الآخرين في مجالات الريادة وحقوق الإنسان، وخاصة بعد ما لحق سمعتها الأخلاقية بفعل فضائح سجون أبو غريب وغوانتانامو وباغرام والسجون الطائرة والسرية... وغيرها.

وكذلك فشلت أميركا في مجال الحرب في تحقيق الانتصارات المقنعة التي شنت بسببها حروباً بحسابات خاطئة فتكشفت عن نتائج كارثية، إلى درجة أن خصومها لم يعودوا بالضرورة يهابونها. وهو فشل يأتي بعد الاستثمار الهائل والمكلف وطويل الأمد لعقود، وعلى رغم استخدام ثقلها في توظيف قوتها الناعمة السياسية والدبلوماسية والمالية بصفتها الدولة الأكثر تأثيراً على المسرح الدولي. ونرى هذا الإخفاق في أوضح صورة من خلال الفشل في إحلال السلام وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي، وإنجاز حل الدولتين مع أنه يمثل جوهر رؤية أوباما الذي أولى هذا الصراع أهمية خاصة منذ اليوم الأول لولايته بتعيين جورج ميتشل مبعوثاً للشرق الأوسط. كما كان اتصاله الأول مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وكذلك كانت مقابلته الخارجية الأولى مع وسيلة إعلام أجنبية مع قناة quot;العربيةquot;. وأكثر من هذا أن التوصل إلى حل ينهي الصراع العربي- الإسرائيلي يعتبر مصلحة أميركية بالدرجة الأولى، لأنه يخدم مصالح الولايات المتحدة في أكثر المناطق استراتيجية بالنسبة لها، ولكن بسبب ازدواجية معايير واشنطن وكيلها بمكيالين وانحياز الإدارة الأميركية والكونجرس والإعلام ومراكز القوى لإسرائيل، فشلت في أن تكون وسيطاً نزيهاً ومحايداً كما تدعي، إلى درجة أن نتنياهو حاضر على أوباما، ورفض مطالبه، ومع ذلك صفق له الكونجرس الأميركي وقف له أكثر من وقوفه وتصفيقه لأي رئيس أميركي!

كما أن واشنطن على رغم قوتها الصلبة كأقوى قوة عسكرية على كوكب الأرض، ومع أنها الدولة الوحيدة التي تجوب أساطيلها جميع محيطات وبحار العالم وتنفق نصف الإنفاق العسكري العالمي، لم تحسم الحروب الثلاث التي خاضتها في العراق وأفغانستان، إضافة إلى الحرب على الإرهاب وquot;القاعدةquot;. وذلك على رغم كسبها مؤخراً لجولات مهمة لمصلحتها، وانسحابها من العراق، والشروع في الانسحاب من أفغانستان، إلا أن كل هذا يكرس في عقلية خصومها مفهوم الهزيمة وليس الانتصار. ولذلك لم يكن غريباً أيضاً أن يعتبر قائد فيلق القدس الإيراني quot;الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان هزيمةquot;، وهذا ما تعلق عليه دورية أميركية يمينية موالية لإسرائيل مؤكدة أن quot;بعضاً من حلفاء أميركا العرب يعتقدون بتراجع نفوذها وحضورها في المنطقة، وقد بدأوا يبحثون عن شركاء لمساعدتهم في ضمان أمنهم. وتبرز الصين كمرشح مستعد لملء هذا الفراغ الذي ستتركه واشنطنquot;.

ويوصّف المفكر الأميركي جوزيف ناي معادلة الانتصار في المعارك مؤكداً أن على quot;المقاتل الذكي والناجح أن يمزج في اعتدال وتوازن بين قوة الجذب والإقناع الناعمة، والترهيب والإكراه الخشنةquot;، كما وصف أيضاً المخطط الاستراتيجي الصيني quot;صن تسوquot; قبل ألفين وخمسمائة عام، مهارة واستراتيجية الانتصار بأن قمة النجاح فيها تكمن في عدم القتال، بل هزيمة واستسلام خصمك بالترهيب والترغيب دون قتال. ولاشك أن أميركا فشلت في ذلك كله في السلم والحرب، وفي الترغيب والترهيب والقوة الناعمة والقوة الصلبة معاً! وذلك هو أبلغ مثال على عجز القادرين!