عبد الوهاب بدرخان

مصر في إجازة رسمية غداً، للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لانطلاق ثورة 25 يناير ولتسهيل الاحتواء الأمني لأي مواجهات توقعتها المخاوف المسبقة. يفترض أنه يوم لجميع من شارك في الثورة، لكن أوضاع الثوار تغيّرت، فمنهم من قطف ثمارها وبوأته صناديق الاقتراع لدور لم يكن يحلم به، ومنهم من ضخمت الانتخابات حجمه أو حجمته فأحبطته، ومنهم من قدم أكبر التضحيات وخذلته إدارة المرحلة الانتقالية فلم يبق له سوى افتراش ميدان التحرير والمكوث فيه باعتبار أن الثورة مستمرة.

أكثر ما يبرر نهج الثورة الدائمة أن النظام السابق لم يسقط. لكن هل هناك شعور محدد وواضح لـquot;السقوطquot; الكامل والناجز لذاك النظام؟ البعض يعزو استمراره إلى أنه كان في أساسه وجوهره عسكرياً، وأن المجلس العسكري تسلم إدارة المرحلة الانتقالية، إذاً لهو اشتغل استناداً إلى منظومة الأعراف التي كانت سائدة عملياً منذ ثورة يوليو 1952 مع التنقيحات التي طرأت عليها. ورغم أن العسكر أدركوا أن تغييراً قد حصل، وأنه تغيير أكثر شمولاً وعمقاً عما سيحصل، إلا أنهم حاولوا التعامل مع واقع ما بعد الثورة بما اعتقدوه ممكناً. لكنهم حرصوا ويحرصون على أن يبقى للمؤسسة العسكرية خط رجعة في حال تدهور الأوضاع السياسية وانعكاسه على الأمن.

لعل ما برر ذلك في نظرهم أن الوسط السياسي دخل سريعاً في فوضى وصراعات، وثمة قوى وقفت فوراً ضد المجلس العسكري، وقوى أخرى حاولت استمالته. لم يكن واقع التجريف السياسي خلال العهد السابق عاملاً مساعداً في تحقيق الانتقال، بل ساهم في تعقيده، إذ حرم مصر من الشروع في تجربة مماثلة لتلك التونسية حتى أمكن الاعتماد على حكومة مدنية لإدارة البلد، وعلى هيئات مدنية لوضع أجندة الانتقال.

الفارق أن الجيش في تونس لم يدخل، منذ غداة الاستقلال، في لعبة الحكم والسياسة وتنصيب الرؤساء، بل لم يكن له أي تمثيل في الحكومات، وكان وزير الدفاع مدنياً على الدوام.

يعود الفضل في ذلك إلى quot;بورقيبةquot; الذي أصرَّ على الطابع المدني للدولة والمؤسسات، وهو ما حافظ عليه quot;بن عليquot; ليس اقتناعاً به وإنما لأنه وجد مصلحة فيه، فهو نفسه كان ضابط أمن وواصل الاعتماد على المدنيين، إلا أنه أدار الدولة بعقلية العسس الفاسد. لذلك شكل الجيش التونسي أرضية آمنة ومضمونة للمدنيين كي يمضوا في البرنامج الانتقالي من دون اشكالات، ورغم إعادة الهيكلة والتنظيم التي مرَّ بها الجهاز الأمني فإنه يبقى موضع التشكيك.

أما في مصر، فيشكل موقع الجيش ودوره المزمن في الحياة العامة حقيقة وواقعاً لم يكن ممكناً افتراض سقوطهما وزوالهما مع انهيار النظام الحاكم.

وفي الوقت نفسه لم تكن المؤسسات الأخرى، أي المدنية، بشخوصها quot;المنتخبةquot; بالتزوير أو بما يشبه التعيين، جاهزة لتوفير ولو نواة إدارة مدنية انتقالية يمكن تطعيمها بعناصر تحظى بقبول الثوار. فالتونسيون ارتضوا رئيساً مؤقتاً كان بن علي من اختاره للبرلمان، وارتضوا أولاً رئيس الحكومة قبل أن يضغطوا لتغييره، وكان ثمة منطق في ذلك لأنه من رموز النظام السابق، وقد يصعب عليه الاعتراف بضرورة التغيير الحقيقي الكامل. أما بديله فلعب لعبة الحياد على أكمل وجه، ولم يكن غطاء لألاعيب تجري خلفه على المسرح، ولا ممراً لتسويات يمكن أن تنعكس سلباً -أو حتى إيجاباً- على مسار الانتقال الذي ترك في سبيله من دون تدخلات، أو بالحد الأدنى منها.

واقعياً لم يكن هناك خيار آخر quot;آمنquot; لمصر بعد الثورة، لأنه لم تبق أي مؤسسة قائمة ومتماسكة غير الجيش. لكن، للإنصاف، ينبغي القول إن المجلس العسكري لم يبحث جدياً في أي سيناريو لتسليم الحكم إلى المدنيين، لذلك، لم تظلمه انتقادات الثوار، فحتى الحكومة الأولى التي حظي رئيسها بـquot;شرعيةquot; ميدان التحرير وترحيب لم يجد العسكر دافعاً لديهم لمنحها صلاحيات اتخاذ قرارات صعبة لا يريد المجلس العسكري أن ينسبها لنفسه، فكان أن تابع نهج quot;التجريفquot; إياه فأنهك مصداقيتها وشعبيتها.

هل تحتاج مصر إلى ثورة ثانية؟ لا، ليس بعد الانتخابات، ورغم حصيلتها المقلقة، لأنها ستدمر عندئذ مصداقية الثورة نفسها. لكنها تحتاج بالتأكيد إلى يقظة ثورية دائمة، إلى رقابة صارمة على النقاش الدستوري والإدارة المقبلة للشأن الاقتصادي وموقف النظام الجديد من الحريات كافة. فالتخلص من النظام السابق سيبقى بطيئاً إذا كان للتغيير أن يطاول كل البنى التي قام عليها، لكنه في كل الأحوال يجب أن يتم بمعايير وطنية وإنسانية وليس بدافع الأثرة والأحقاد الحزبية.