فؤاد مطر


كنا في الماضي، نحن الصحافيين، نحتار في أمر العناوين التي نتوج بها الصفحة الأولى من أعداد الصحيفة، ذلك أن الأخبار التي تبثها الوكالات عادية في معظمها، أو هي رتيبة بالنسبة إلى مواضيع لا تعنينا كثيرا كعرب.

ولقد حدثت بعض الاستثناءات، وهي إما تتعلق بانقلابات أو بصدمات من نوع الهزيمة البالغة المرارة، التي حدثت يوم 5 يونيو (حزيران) 1967، فضلا عن أحداث مفجعة رافقت سنوات الاحتراب في لبنان. وهناك الأحداث المتعلقة باغتيالات وتصفيات واحتلالات وغزوات. لكنها استثناءات لا تصل إلى ما وصلنا إليه طوال عام 2011، حيث بات الصحافي يجد نفسه في اليوم الواحد في حيرة من أمر أي من الكم الهائل من الأخبار المهمة يأخذ طريقه إلى عناوين رئيسية للصفحة الأولى من الصحيفة. ولا يكاد يمر يوم إلا ويجد محرر الصفحة الأولى من الصحيفة أمامه عشرات الأخبار التي يصلح كل خبر منها لكي يتصدر الصفحة.

وبقدر ما إن ذلك يبهرنا كصحافيين، بالقدر نفسه لا نجد عموما في أي من هذه الأخبار المهمة سوى المسيء منها إلى الذات، أو المستفز، أو الذي يتسم بالتشفي.

وعلى سبيل المثال، لا الحصر، هناك أمامنا الخبر الذي ينطبق عليه ما نشير إليه، وهو حول قيام الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، بزيارة إلى ليبيا، أراد منها تحدي المحكمة الدولية التي أصدرت منذ سنتين (4 مارس / آذار 2009) مذكرة اعتقال في حقه، واتهمته بـlaquo;ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعيةraquo; في منطقة دارفور في غرب السودان. ومع أن الرئيس البشير سبق أن زار دولا عدة أفريقية وعربية، من بينها مصر وقطر، من دون أن تتجاوب سلطات تلك الدول مع طلب المحكمة الأوكامبوية، فإنه في زيارته إلى ليبيا تم استقباله من أركان نظامها الجديد بحفاوة، من نوع حفاوة الشعب الليبي بالرئيس (الراحل) عبد الناصر عندما زارها وتوج فيها معمر القذافي laquo;أمينا للقومية العربيةraquo; من بعده مدشنا بهذا التتويج مرحلة نمو ظاهرة العنفوان الطاغي في نفس ضابط لم يبلغ بعد الثلاثين من العمر. وهذا العنفوان، كما انتهت إليه ثلاثة عقود ونصف العقد من حكم القذافي، ساهمت فيما آلت إليه أحوال ليبيا والنهاية المأساوية للعقيد القذافي وأفراد عائلته وقبيلته، ومعهم تدمير وانتهاكات وتشريد الألوف في طول البلاد وعرضها.

وهذا الاستقبال من حيث الحفاوة يضفي أهمية استثنائية على الزيارة، باعتبار ليبيا تبدلت بفعل دعم أطلسي بالغ الفعالية، انتهى إلى إسقاط نظام العقيد معمر القذافي أفجع إسقاط، وبالتالي فإن ليبيا تساير المجتمع الدولي الذي يهيمن عليه الحلف الأطلسي، في حال كانت دول هذا الحلف ترى أن يتم القبض على الرئيس البشير، أو أن يحظى بالسماح، باعتباره، بعد دوره في اقتسام السودان بين شمال حائر وجنوب خائر يضطر رئيسه سلفا كير إلى زيارة إسرائيل صادما بذلك الأمتين، شارك البشير الأطالسة في إسقاط نظام القذافي، وذلك من خلال مده المنتفضين بالسلاح، وربما بما هو أكثر من السلاح.. أي أنه حارب إلى جانبهم، وجعل من حدود السودان مع ليبيا منافذ للدعم اللوجيستي والبشري.

وكتدليل على أهمية دور النظام السوداني في إسقاط الحقبة القذافية جاء ذلك الاستقبال المدني والعسكري الرسمي له، وكذلك إبلاغه الليبيين فور وصوله أنه شريكهم في المعاناة من نظام القذافي، وقوله بالحرف الواحد: laquo;لقد عانينا كلنا من نظام الحكم السابق؛ سواء الشعب الليبي أو الشعب السوداني، إلا أننا نقول إن الشعب الليبي كان الأكثر معاناة، وكنا نحن رقم اثنين في المعاناة من ذلك النظام، وإن ثوار ليبيا قدموا أكبر هدية للشعب السوداني بإزالة نظام القذافي، وهو إنجاز بكل المقاييس، وزيارتي هي لتقديم التهنئة لثوار ليبيا على انتصارهم على قوى البغي والعدوانraquo;.

وردا على جمائل البشير، وعد أهل الحكم الليبي الجديد رئيس المجلس الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، بالاستثمار الزراعي والعقاري الهائل في السودان، وذلك في إطار رؤية عامة لمراجعة كل الاستثمارات في العالم العربي وبعض الدول الأفريقية والأوروبية وغيرها من دول العالم. وأضاف موضحا: laquo;إن العقل والعدل يتطلبان من ليبيا توجيه استثماراتها الزراعية بالقرب من ليبيا، بدلا من الشرق الأقصى أو آسيا الوسطىraquo;. لكن الرد يبقى في نظر السودانيين مجرد وعد إلى حين التنفيذ، كما أن laquo;البشير الإنقاذيraquo; عرض على حكام ليبيا الجدد تقديم خبرته في دمج عشرات الميليشيات الليبية، وصهرها في الجيش الذي تتم إعادة تكوينه.

الحالة السودانية - الليبية هذه تذكرنا بمثيلتها في زمن نظام الرئيس جعفر نميري، الذي بدأ حليفا للقذافي ثم انتهى إلى خصام، لأن القذافي الذي كان أسهم في إحباط انقلاب ضد نميري قاده الشيوعيون، أسهم بعد ذلك في عملية غزو لعناصر مسلحة تابعة للمعارضة السودانية، انطلقت من الأراضي الليبية ووصلت إلى الخرطوم، وكادت تنجح في إسقاط نميري، لولا أن مذبحة استهدفت عددا من الضباط داخل أحد المعسكرات أجهضت العملية برمتها. ومساندة القذافي لهؤلاء الغزاة هي تماما مثل مساندته لاحقا للمتمردين في دارفور، وجاءت زيارة البشير إلى ليبيا بعدما كان نجح في تصفية زعيم حركة التمرد؛ إبراهيم خليل، وكأنما هي الترجمة لعبارته التي أوردناها في سطور سابقة من أن الشعب السوداني كان رقم اثنين في المعاناة من نظام القذافي. كما أنه يريد القول ما معناه لحكام ليبيا الجدد إن المعارضة التي يشكو منها في السودان كانت حليفة القذافي، ولذا فإن مساندة ليبيا الجديدة للسودان، الذي يترأسه، يجب أن تستبق أي خطوة من جانب معارضين سودانيين لتجديد العلاقة مع ليبيا.

ونستحضر هنا واقعتين تعكسان جانبا من المشاعر لدى أهل الحكم في كل من السودان، الذي هو شبه قارة صغرى في قلب القارة الأفريقية، وليبيا، التي هي شبه قارة في الجناح المغاربي من الأمة. وتتمثل الواقعة الأولى في أن القذافي طالب نميري بتسديد قرض سبق أن قدمته ليبيا القذافية للسودان، الأمر الذي حمل الرئيس السوداني على التوجيه بحملة لجمع المبلغ من تبرعات الشعب السوداني، وتحت شعار laquo;قرش الكرامةraquo;. وهذه الواقعة تكررت أيضا مع البشير، الذي أصر القذافي على استرداد قرض حصل عليه laquo;سودان الإنقاذraquo;، وعندما لم يتيسر الأمر، فإن ليبيا استردته من خلال الاستحواذ على أثمن قطعة أرض في الخرطوم، وشيدت عليها فندقا ضخما على شكل بيضة، وبذلك بات السودانيون يسمونه laquo;فندق بيضة القذافيraquo;.

وما نشير إليه هو على سبيل المثال لا الحصر، لأن العلاقة السودانية - الليبية كانت في استمرار في زمن القذافي في حالة مد وجزر، أو فلنقل: في حالة كر وفر. الكر بالمعنى الإيجابي والتقاء مصلحة الجنرالين السودانيين نميري ثم البشير، والفر بمعنى التأزيم، بحيث إن كلا منهما يحلف بالطلاق من العلاقة مع ليبيا، وينتظر اللحظة المواتية لتنفيذ اليمين. وفي الحالتين، هناك تسرع ورغبة في التشفي وحسد سوداني من ليبيا، الثروة النفطية، يقابله حسد ليبي من السودان، الثروة المائية والزراعية.

وثمة نقطة لافتة هنا، وهي أن الحفاوة الليبية بالرئيس السوداني المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية قد تحرِج الحكم الليبي الجديد في شأن التعامل مع حالة سيف الإسلام القذافي، المطلوب هو الآخر من تلك المحكمة.. إلا إذا كانت الحفاوة المشار إليها من شأنها استنباط تخريجة لعدم الانشغال كثيرا بموضوع سيف الإسلام، والاكتفاء بما جرى له، وللنظام الذي كان يقوده والده، وانتهى في شكل فاجعة شخصية وعامة. لكن في الوقت نفسه، فإنه بالتزام المجلس الوطني الانتقالي بحقوق الإنسان وحكم القانون، سيجد نفسه يشقى في توضيح هذا التلاقي مع الرئيس السوداني، الذي ربما يراهن على مرونته إزاء القبول بانسلاخ الجنوب، مما أثلج صدر المجتمع الدولي، وأشعل نارا في صدر الرأي العام السوداني، لأن السودانيين فقدوا السودان كـlaquo;عميدraquo; للدول العربية من حيث المساحة، وباتت laquo;العمادةraquo; من نصيب الجزائر، وستجعل الملاحقة له لعبة مسلية ومطاردة أشبه بمطاردة توم لجيري أو العكس.

ونعود إلى ما بدأناه، لنقول إننا كصحافيين نتحير، منذ أكثر من سنة، في أي من الأخبار التي أمامنا نتوج به العنوان الرئيسي للصفحة الأولى. فهي كلها أخبار لا تبعث في النفس سوى الخشية مما هو أعظم، كما أنها في معظمها تستهدف الاستفزاز والتشفي. ولكننا على الرغم من ذلك نبقى في انتظار الخبر الذي يسر الخاطر، وهو أن يوما مضى من دون تهديدات إيرانية بإشعال المنطقة حربا، ردا على العقوبات المتتالية على إيران من أميركا وحلفائها، يقابل هذه التهديدات رد أميركي بمثل مضمونها، ومن دون أن ينقضي يوم ليس فيه سفك دم إنسان عربي، أو إزهاق روح طفل بريء. وهذا أمر ممكن في حال صدور قرار يحمل توجيه الرئيس بشار الأسد في الدرجة الأولى إلى مرؤوسيه؛ بأن الصفحة المؤلمة ستطوى.. وإلا فسينصرف هو وعائلته الصغيرة من تلقاء نفسه.

وهذا ما نتمناه قبل أن يحدث التدويل، لا قدر الله. كذلك نتمنى أن لا يستنسخ أهل الحكم في إيران تلك الواقعة، التي كان العراق في غنى عنها، المتمثلة في إصرار الرئيس صدام حسين على إعدام الصحافي البريطاني الإيراني الأصل، فيرزاد رباطي بازوفت، العامل في صحيفة الـlaquo;أوبزرفرraquo; بعد إدانته بتهمة التجسس وتصوير منشآت عسكرية. ولم يتجاوب صدام في حينه لا مع المناشدات ولا مع التمنيات ولا مع تحذيرات رئيسة الحكومة البريطانية، مارغريت ثاتشر، التي انتصرت لبازوفت؛ ليس تعاطفا معه فقط، وإنما لأن الظروف، زمنذاك، كانت تستوجب خلق ذرائع للانقضاض على الحكم الصدامي، وهذا ما حدث. وهو لم يتجاوب فحسب، وإنما رفع منسوب التحدي، وذلك بقوله: laquo;إن الدبور الذي يعتدي سيقطع العراق رأسه وذنبه، وإن أي جاسوس يمر بالعراق ويتصور أن خلفه دولة عظمى سيجري تقطيعه إلى أربعة أجزاءraquo;.

هذه الواقعة والكلام حولها، حدثت في أبريل (نيسان) 1990، وها نحن بعد 21 سنة نجد أهل الحكم الإيراني يستنسخون تلك الواقعة، ويصدر في طهران حكم بالإعدام على أمير ميرزائي حكمتي، وتعتبر المحكمة الثورية أن هذا الشاب (28 سنة)، الذي كان يزور جدته في إيران laquo;مفسِد في الأرضraquo;.

والمهم ألا تكون نهاية حكمتي، مثل نهاية بازوفت، وذلك كي لا يكون إعدامه على وقع التصريحات الحادة، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز الذي قال قائد البحرية الإيرانية: laquo;إن إغلاق المضيق سهل ومثل شربة ماءraquo; وذلك، من دون التبصر بما جرى لمصر عبد الناصر، بعدما أغلق مضايق تيران، ذريعة مضافة إلى مجموعة ذرائع لإنهاء الحكم في إيران، على نحو إنهاء الحكم الصدامي في العراق.