حازم صاغيّة

افتتاح برلمان مصر الجديد حدث كبير، بل حدث تاريخيّ. مجرّد أن يُنتخَب أعضاؤه انتخاباً حرّاً وأن يلتئم شمله تحوّل ضخم بذاته: يكفي التذكير بأنّ هذا البرلمان الذي ولد في وقت مبكر حتّى بالمعايير الغربيّة، أي في 1866، ثمّ كاد يتحوّل في 1923 إلى مؤسّسة تحظى بمواصفات البرلمانات الجدّيّة، تحوّل، منذ 1952، إلى مؤسّسة معيّنة تحت رداء الانتخابات الشكليّة. وهذا من غير أن ننسى أنّ فترة ما بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية كانت قد حدّت من فعاليّة البرلمان المصريّ ومن جدّيّته بسبب الحاجات العسكريّة والاستراتيجيّة للبريطانيّين. هكذا اكتسب يوم 4 فبراير (شباط) 1942 شهرته في التاريخ المصريّ بوصفه اليوم الذي حاصرت فيه الدبّابات البريطانيّة قصر عابدين وفرضت حكومة مصطفى النحّاس فرضاً.

قصارى القول إنّ البرلمانيّة لم تعش عيشة هانئة في مصر، وهي تبدأ اليوم بدايتها الجديدة، مصحوبة بمزاج انتخابيّ عارم ظهر أثره على مؤسّسة الأزهر أيضاً.

وفي ذلك ما يكفي للردّ على القائلين إنّ شيئاً لم يحصل في هذا laquo;الربيع العربيّraquo;. فإلى تلك التحوّلات المصريّة الكبرى، سبق لتونس أن أنتجت برلمانها وهيئتها الحاكمة الجديدين، كما أزيح معمّر القذّافي وكابوس جماهيريّته عن صدور الليبيّين. وعلى رغم ما تبديه التسوية التي تمّ التوصّل إليها في اليمن من قصور، وعلى رغم ما تثيره من شكوك، يبقى أنّ التخلّص من علي عبدالله صالح قد غدا مسألة مطروحة على الطاولة. أمّا في سوريّة، فتّتسع القناعة بأنّ نظام القتل في دمشق إلى زوال، وإنّ أدّى تمسّكه بسلطته وامتيازاتها إلى مضاعفة الأكلاف وتعظيمها.

بيد أنّ المسيرة الصاعدة في الاتّجاه البرلمانيّ، التي دشّنتها تونس وتوّجتها، حتّى إشعار آخر، مصر، لا تعفي من مسألة سبق أن رأيناها في العراق، ولو جاءت هناك على خلفيّة أخرى.

ذاك أنّ المنطق الانتخابيّ، بوصفه الظاهر الأداتيّ المباشر للعقل الديموقراطيّ، هو منطق الانتقال من الولاءات المبعثرة التي تنتظم بحسب تراتُب الدين أو المذهب أو الإثنيّة، إلى مساواة في المواطنيّة مرفقة بالانقسام على قاعدة السياسات والأفكار والمصالح.

وفي هذا المعنى، يحقّ للمرء أن يخشى ذاك التضافر بين صعود العقل الانتخابيّ راهناً وصعود مسألة laquo;الهويّةraquo; وسياساتها. ذاك أنّنا قد نشهد، على ما سبق أن شهدنا في العراق، تحويل الانتخابات أداةً لتمتين الاستقطاب من حول الهويّة، وبالتالي لإنشاء نوع من الطغيان الأكثريّ، أي طغيان أصحاب الهويّة التي تصدر عنها الأكثريّة.

ما يدفع إلى هذا الخوف أنّ القوى التي استحوذت على ثلثي البرلمان المصريّ الجديد هي قوى هويّة، بل هويّة مكبوتة ومحتقنة، فيما مواقفها من الهويّات الأخرى، لا سيّما النساء والأقباط والمبدعين، ليست ممّا يُعتدّ به، لا تقليديّاً ولا الآن.

ولقائل أن يقول إنّ الطريق إلى الديموقراطيّة في مجتمع لم تستقرّ فيه الديموقراطيّة من قبل طريق ملتوية وملتفّة. وربّما كانت روسيا خير مثال على هذين الالتواء والالتفاف، حيث رست السلطة في أيدي قوى غير القوى الشبابيّة والليبراليّة التي أسقطت الحكم الشيوعيّ. إلاّ أنّ ذلك يبقى نقلة إلى الأمام لا بدّ من أن تليها نقلات أخرى.

هذا كلّه قد يكون صحيحاً. عساه يكون صحيحاً.