عدنان السيد

عطفاً على الوثيقة السابقة في يونيو/حزيران الماضي، جاءت الوثيقة الثانية لعلماء الأزهر والمثقفين المصريين لتزيد القناعة بالحريات العامة وحقوق الإنسان، ولتفتح الطريق أمام التغيير السلمي في الدول العربية نحو الديمقراطية وبناء أنظمة سياسية جديدة .

صحيح أن الوثيقة الأزهرية جاءت تحت ضغط الأحداث المصرية، وخاطبت المصريين المتحفزين لبناء دولتهم من جديد، بيد أن دور الأزهر يتجاوز مصر ليطاول العالم الإسلامي كله، وقد يُحدث تأثيراً إيجابياً في مسار الحضارة الإنسانية إذا ما صدقت النوايا، والتزم الدعاة والمسؤولون بالأفكار المطروحة . وعليه، فإن الوثيقة الأزهرية لم تعد شأناً مصرياً فقط، لقد صارت شأناً عربياً وإسلامياً . وهذا هو شأن تأثير الأزهر منذ مئات السنين .

نلاحظ جملة مصطلحات جديدة في الوثيقة الأزهرية هي نتاج الحضارة الإنسانية في دائرة الفكر الإسلامي المستنير . نذكر منها على سبيل المثال:

منظومة الحريات العامة، المواثيق الدولية، التشريع الدستوري الحديث، الحرية السياسية والديمقراطية، المؤسسات الدستورية، العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجمود والتقليد، حقوق الإنسان .

هذه مصطلحات علمية موجودة في نطاق التعليم العالي الجامعي، ولم تعد ملكاً لشعب واحد من الشعوب بعدما باتت في متناول الإنسانية . واللافت أن الأزهريين، ومعهم المثقفون المصريون اقتحموا هذا المضمار في ضوء الشريعة الإسلامية التي تنطوي في جوهرها على تحقيق الخير العام، أو خدمة الشأن العام على قاعدة إنسانية الإنسان .

عند التعمق في مضمون الوثيقة نجد أربعة عناوين هي: حرية المعتقد، حرية البحث العلمي، حرية الرأي والتعبير، حرية الإبداع الفني . إنها في مجملها تعبير عن الحريات العامة التي أقرتها الشرائع الدولية، وتكشف التوجه الحديث للأزهر المنسجم مع حداثة العصر، والمتطلع نحو التغيير الإيجابي في المجتمع والدولة .

في حرية العقيدة، ثمة التزام بالأصول الدستورية وبالنصوص الدينية القطعية . وتعهد صريح باحترام حرية العقائد والتعدّدية الدينية في المجتمع المصري، على قاعدة المواطنة والشراكة الكاملة . وعليه فإن العلاقة بين المسلمين والأقباط يجب أن تنضبط في هذا الإطار الموضوعي كما نستنتج من الوثيقة، وهذه نقلة نوعية في الاجتماع السياسي .

وفي حرية البحث العلمي هناك دعوة صريحة لاستئناف البحث العلمي الجاد في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية، في إطار الخير العام للإنسانية . فلا قيود على البحث العلمي، بل تشجيع ودعم مادي ومعنوي . ولا بد للحكومات العربية الجديدة من أن تواكب النهضة العلمية العالمية، خصوصاً في مضمار التقنية المعاصرة .

أما حرية الرأي والتعبير، فإنها تضمن حق النقد البنّاء، وتكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق بعيداً عن التعصب، ويؤمن بالحوار والتوافق الوطني .

إلى ذلك، ثمة تشجيع للأدب والفن من شعر وقصص وموسيقا ومسرح، وفنون تشكيلية من نحت وتصوير ورسم، وفنون سينمائية وتلفزيونية . وهناك اعتراف صريح بدور الفنون في ترقية الإحساس الجمالي وتوسيع مدارك الناس، وتعميق خبرتهم بالحياة والمجتمع .

هكذا يفتح الأزهر من جديد فكره أمام التحديث ومواكبة العصر، ويحرّض على التفكير في أحوال مصر والعرب والمسلمين تحت ضغط الثورات العربية، مهما كانت تحدياتها وإشكالياتها المتعددة .

نحن أمام نقلة فكرية جديدة، وإضافية، تساعد الفكر الإسلامي على مواجهة التحديات الراهنة بلغة العقل ودائماً في إطار الشريعة .