يوسف نور عوض

في ضوء ثورات الربيع العربي، أود أن أركز على ثلاث من الدول العربية، أولها مصر بكون مصر بدأت نهضتها الحديثة خلال القرن التاسع عشر على يد محمد علي باشا، وهو.
الذي بهر بالحضارة الغربية وأراد أن تلحق مصر بركبها، ولا شك أن الظروف في مصر في ذلك الوقت كانت مهيأة بسبب قلة عدد السكان ووجود الموارد التي تسمح بذلك، وهكذا أصبحت عملية التحديث التي بدأت في مصر محط أنظار العالم العربي الذي أراد بدوره أن يتخذ من مصر أنموذجا لحداثته، لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم بثورة الثالث والعشرين من يوليو التي أتت بمفاهيم مغايرة فرضتها ظروف الحرب الباردة، وعند ذلك توقفت عملية التحديث لترتفع مكانها شعارات تمني الشعب بالتقدم وتوزيع الثروة بصورة عادلة دون أن يتنبه المسؤولون إلى أن هذه الشعارات قضت على الطبقة الرأسمالية التي تقود عملية التحديث والتي لم تعوض بما يحقق التقدم الاقتصادي في مصر، وخلال تلك المرحلة بدأ عدد السكان يتزايد بصورة كبيرة تركت آثارا سلبية على الاقتصاد المصري ما جعل الكثيرين يعانون من هذا الوضع، وهكذا حين بدأت ثورات الربيع في تونس وتبعتها ليبيا كان من الطبيعي أن ينتقل زخمها إلى مصر، ولكن نجاح الثورة في مصر لم يسفر بصورة تلقائية عن نظام جديد، ذلك أن الثورة المصرية لم يكن لها برنامج واضح غير إسقاط النظام، وبالتالي كان من الطبيعي أن تسلم الثورة الحكم لمجلس عسكري دون التساؤل عن حقيقة هذا المجلس الذي كان رجاله من الذين عملوا مع نظام حكم مبارك، وهو ما يجعلهم غير متحمسين لمحاسبة أركان ذلك النظام.
ونرى بعد فترة من الزمن وافق المجلس العسكري على إجراء الانتخابات البرلمانية في البلاد وذلك قبل أن يتأسس فيها نظام ديمقراطي، وكان من أثر ذلك أن اقتحمت القوة الوحيدة المنظمة في البلاد الانتخابات لعدم وجود البديل، وتلك هي قوة الإسلاميين الذين سيطروا على البرلمان الجديد، وطالبوا منذ البداية بالسلطات التي يملكها المجلس العسكري وأن يكون للبرلمان الحق في التشريع وتكوين السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء، وهذا أمر مشروع في ظل نظام ديمقراطي متكامل، وأما حين لا يكون هناك مثل هذا النظام فإن الأمر لا يعدو أن يكون سيطرة اتجاه دون الاتجاهات الأخرى، على الرغم من أن حزب العدالة والحرية أكد على أنه لن ينفرد بالسلطة وسيتعاون مع الجميع وهو وعد تدور حوله شكوك كثيرة، ونقدر أن مثل هذا الوضع لن يستمر كثيرا وستكون نهايته إما بثورة شعبية أخرى، وإما بانقلاب عسكري يعيد الكرة إلى المربع الأول من جديد
وأما في سورية فالوضع يأخذ صورة مختلفة، ذلك أن المعارضة لنظام الحكم بدأت تتخذ شكل ثورة شعبية فيها كثير من الضحايا، وذلك ما تنكره السلطة التي ترى أن الأمر كله مبالغة سببها وسائل الإعلام، والغريب أن الجامعة العربية بدت منحازة للنظام السوري أولا: من حيث طلبها أن يبدأ النظام عملية إصلاح لنظام الحكم عن طريق الدخول في حوار مع المعارضة.
وثانيا: من خلال إنكار رئيس لجنة المراقبين أن يكون الوضع في سورية مازال متأزما، وبالطبع فإن المعارضة السورية تستنكر موقف الجامعة العربية، وتقول إنها لا تريد أن تدخل في أي حوار مع النظام كما أنها لا تريد اي إصلاح تحت مظلة النظام الذي هو في نظرها نظام غير شرعي يجب أن يزول وأن يحاسب جميع القائمين عليه. ومهما يكن من أمر فلا شك أن النظام السوري ارتكب جرائم كثيرة في حق الشعب وهي جرائم لا يجب أن تمر دون حساب، وإذا ما كان هناك حساب فلا بد أن يزول النظام حتى يمكن محاسبة المسؤولين فيه.
وعلى الرغم من وضوح هذه الصورة في سورية فإن الأمر لا يبدو سهلا بكون سورية تتميز بوضع خاص يجب أن يؤخذ في الاعتبار على الرغم من أن رئيس هذا البلد وصل إلى سدة الرئاسة عن طريق نظام التوريث ولم يفوضه الشعب كي يلعب أي دور في قيادة بلاده، وأما هذا الوضع الخاص فهو أولا: قيام الحكم في سورية على أسس طائفية، وإذا كان الحكم ما زال يواصل حكمه من خلال حزب البعث رافعا شعارات قومية فإن تلك مجرد واجهة للتضليل والخداع يمارسها الحكم ليغطي على حقيقته الطائفية، وهي حقيقة لا يبدو أنها تغضب الولايات المتحدة أو إسرائيل طالما أن الأسد لا يتعرض لمصالحهما في المنطقة ويبدو ذلك واضحا في حقيقة أن الجولان محتل منذ أكثر من أربعين عاما لم يصوب خلالها النظام طلقة واحدة صوب إسرائيل، فماذا تريد إسرائيل والولايات المتحدة أكثر من ذلك، ولعل هذا الوضع الخاص لسورية هو الذي يجعل النظام السوري يشعر بالاطمنان على الرغم من جرائمه التي كان يجب أن تكون موضوع محاكمات دولية، ويبدو في ضوء هذا الواقع أن تغيير النظام بنظام ديمقراطي هو هدف بعيد المنال في المرحلة الراهنة، وذلك ما يجعل نظام الحكم في سورية يواصل جرائمه دون أن يشعر بالقلق.
وإذا انتقلنا إلى الوضع في السودان فسنجد صورة مغايرة بعض الشيء، ذلك أن ثورات الربيع العربي بشكلها المعهود لم تصل حتى الآن إلى السودان على الرغم من أن الكثيرين طرحوا تساؤلات ما إذا كان السودان سيكون إحدى محطات الربيع العربي القادمة، لكن المسئولين في السودان يرفضون مثل هذا التساؤل بقولهم إن الربيع السوداني قد حدث قبل ثلاثة وعشرين عاما، والمقصود هو استيلاء ثورة الإنقاذ على الحكم في البلاد خلال تلك الفترة، ولا شك أن الكثير من المسؤولين في السودان يشعرون بالاطمئنان لأن ثورات الربيع في تونس وليبيا ومصر أفرزت صعود الإسلاميين، وبما أن نظام الحكم في السودان إسلامي بالضرورة فلماذا يخشى ثورات الربيع العربي، وهذا بالطبع رأي لا توافق عليه المعارضة التي ترى أن الحكومة ترفع شعارات إسلامية لكنها لم تثبت حتى الآن أنها قادرة على تحقيق نظام إسلامي في البلاد، وقد دفع الفساد المستشري في السودان والذي يظهر في الملكيات العقارية على نحو خاص إلى اتهام الكثيرين من الذين يدعمون النظام بأنهم غير صادقين في ولائهم للمبادئ الإسلامية، إذ كل ما يحركهم هو المصالح الذاتية، ولا شك أن المعارضة السودانية تؤيد هذا التوجه، لكن المعارضة السودانية تفتقر إلى القيادة الحديثة بكون معظم قادتها من الأجيال التي أسست نفسها على أرضية طائفية فشلت في الماضي أن تحقق الحكم الرشيد في البلاد، وهي بكل تأكيد غير قادرة الآن على إقامة مثل هذا الحكم . تلك حقيقة يدركها نظام الحكم القائم الذي لا يرى بديلا لوجوده إذ لو كان يرى ذلك لاتخذ من انفصال جنوب السودان سببا لتفكيك نفسه من أجل إفساح المجال لقيادة جديدة وحكم يكون قادرا على مواجهة احتياجات البلاد في مرحلة جديدة من التحديات.
وتبدو من خلال هذه الصورة التي رسمناها في ثلاثة من البلاد العربية، أن الحديث قد يطول عن الثورات العربية، ولكن هذه الثورات لن تكون سببا في ظهور أنظمة ديمقراطية حديثة لأسباب متعددة في العالم العربي، وبالتالي فإن الهدف لن يقتصر على ثورة تطيح النظام السلطوي بل يجب أن يكون هناك تصور لما سيحدث بعد ذلك، وهنا أود أن أتوقف عند قول سمعته من الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في تصريح متلفز، إذ قال الرئيس لم أكن ذات يوم طالب سلطة أو جاه، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا بقي في السلطة أكثر من ثلاثين عاما وبدأ استعدادا حقيقيا من أجل توريث الحكم لابنه جمال، فهل كان ذلك لأنه لا يوجد في مصر من يتولى مسؤولية الحكم غيره؟ ألم ينظر الرئيس لحكام الدول المتقدمة الذين لا تزيد مدة حكمهم عن دورة أو دورتين بحسب نص الدستور الذي هو غائب في كثير من الدول العربية أو هو مفصل ليخدم مصالح الحكام قبل أن يخدم مصالح الشعب.