علي محمد فخرو


منذ بضعة أسابيع عبت، مع غيري من الآخرين، على القوى السياسية غير الإسلامية بأطيافها الإيديولوجية المختلفة، عبت عليها مواقفها الحذرة السلبية من نجاح المنتمين للأحزاب الإسلامية في انتخابات حره ونزيهة. ذلك أن الإيمان بالديمقراطية يستوجب الاحترام الكامل، بل حتى التقديس، لإرادة الشعب حتى ولو اختلفنا مع خياراته. وإذا كان هناك من ظلٍّ للَه على هذه الأرض فانها إرادة وسلطة الشعوب على كل مقدَّراتها.
إذن، أما وأن الأحزاب السياسية الإسلامية قد أصبحت قادرة على أن تلعب أدواراَ رئيسية، بل وقيادية، في بعض المؤسسات التشريعية العربية كما في مصر وتونس، وهي أيضاً مرشَّّحة لأن تلعب أدواراً مفصلية فاعلة في العديد من مؤسسات الحكم العربية في المستقبل القريب، فإنها ستحتاج أن تمعن النظر في نوع الخطابات التي ستقولها والمنطلقات الإيديولوجية التي ستتبنَّاها وتجعلها مرجعية لـها، وفي الأفعال التي ستمارسها في الحياة السياسية العربية الجديدة، حياة ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي. هناك جوانب يجب أن تعطى لها الأولوية القصوى ومن بينها:
أولاً: إن العالم كلٍّه يراقب أقوالها وتصرفاتها ليراجع بعضاً من انحيازاته السابقة وبعضاً من مخاوفه غير المبَّررة أو ليثبتها ويمعن في تعامله السّلبي المخزي مع الإسلام والمسلمين. سيحتاج خطابهم في البرلمانات وداخل الحكومات أن لا يأخذ بعين الاعتبار جماهير ناخبيهم المراقبين لهم فقط وإنَّما أيضاً قوى كثيرة عبر العالم كله تراقبهم وترجوا أن يرتكبوا الأخطاء والخطايا. وإذن فالمسؤولية التي سيحملونها ستكون مضاعفة، وهذا قدرهم.
ثانيا: إن كل خطاب يحتاج إلى حسم للمرجعية التي تحكمه. وفي حالة الأحزاب الإسلامية لن يكفي ترديد الشعار الشهير من أن الإسلام هو الحل. ذلك أن الإسلام ليس نصوصاً جامدة وإنَّما هو قراءة وفهم لتلك النَّصوص ومن ثمَّ تطبيق لها. هناك فهم وتطبيق كما في إيران وفهم وتطبيق كما في تركيا وفهم وتطبيق كما في السعودية، على سبيل الأمثلة. هناك فهم وتطبيق جامد متزمٍّت لا يترك لحرية المسلم وضميره وقدراته وضعفه البشري الحقَّ في الوجود وهناك الفهم والتطبيق السَّمح المرن الذي لا يرى الحياة كتجلٍّ واحد يتمثَّل فقط في الدين وإنَّما يراها كتجلٍّيات رائعة أخرى حتى ولو أعطى للدين مكاناً مميَّزاَ.
مطلوب من هذه الأحزاب المنتخبة أن تفصح بوضوح وبدون غمغمة عن نوع القراءة التي ستمارسها وعن فهم تلك القراءة المحدَّدة التفصيلية لشعارات من مثل حرية العقيدة والتعبير والإبداع والدولة المدنية وحقوق الإنسان، بما فيها حقوق ومسؤوليات المرأة، والعدالة والمساواة والمواطنة وعدم رضوخ الدولة والمجتمع لأية أقليَّة تحت أيٍّ مسَّمى.. إلخ.. سيريد الناس، وعلى الأخص النَّاخبون، أن يطمئنوا إلى أن اللجان أو المجالس أو الأشخاص الذين سيقومون بقراءة نصوص الدين الإسلامي للأحزاب السياسية الإسلامية ستكون جهات غير متخلٍّفة متزمٍّتة جاهلة لمتطلبات العصر وتطوراته، ولهذه الأحزاب قدوة في اختلاف تعامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع مستجدات الحياة كصحابي وكخليفة للمسلمين.
ثالثاً: تحتاج الأحزاب أن لا تنسى قط أن بقاء تواجدها في الساحة السياسية مستقبلاً، في الحكم أو في المعارضة، سيعتمد لا على مقدار الدٍّيني في خطابها فقط وإنَّما أيضاً، وبشدَّة وإلى حدٍّ بعيد، على عدد المدارس والمستشفيات والمصانع والطرق والخدمات الأخرى التي ستبنى، ونسبة العمالة والشفافية والانحياز للفقراء ومقدار حجم الطبقة الوسطى إلخ.. التي سيساهمون في تواجدها بقوَّة وتصميم. ليتأكَّدوا أنهم حتى لو رفعوا القرآن الكريم على أسنَّة الرِّماح فانَّ ذلك لن يكون كافياً لإعادة انتخاباهم ولبقائهم في الحياة السياسية، سيحتاجون للإنجازات الدنيوية.
رابعاَ: إن تعاملهم مع قضايا كبرى من مثل التعامل مع العدوِّ الصهيوني وحليفه الأمريكي، أو مقدار انحيازهم مع الثورات والحراكات التي ستجتاح بقية أجزاء الوطن العربي في المستقبل القريب، أو مقدار قربهم أو بعدهم من بعض الأنظمة العربية المتخلفة المستبدَّة التي لا ترى في الدُّنيا إلاَ بقاء امتيازات أقليَّاتها المهيمنة على مجتمعاتها، أو مقدار الاستقلال الوطني والقومي والإسلامي عن إملاءات القوى الاستعمارية في الاقتصاد والسياسة والثقافة.. إن تعاملهم مع مثل هذه القضايا، وغيرها كثير، سيكون حكماً على مقدار جديتهم في تبنٍّي مشروع نهضوي متكامل أو انصياعهم لألاعيب السياسة المؤقَّتة التي خضع لها الكثيرون من قبلهم.
سواء أكنَّا ننتمي للقوى السياسية الإسلامية أوقوى الإيديولوجيات السياسية الأخرى فإننا نريد للتجربة الجديدة النجاح لأنَّها حصيلة توق هائل كبير لدى جماهير الشعب العربي للتغيير والتجريب. نجاحها لن يعني بقاءها الأبدي في قيادة السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكنه سيعني عودة الثقة والإرادة في نفوس الجماهير العربية لممارسة مزيد من التغيير والتجريب والإبداع إبَّان ربيع عربي سيمتدًّ عبر القرون، وسيثمر ويزهر.