بهجت قرني

مع الذكرى الأولى للانتفاضات العربية، يستمر الاهتمام العالمي على أشده بأحوال هذه المنطقة، وخاصة بالمستقبل. ولكن هناك اختلاف في الأولويات بين أميركا وأوروبا، فبينما الاهتمام بتأمين إنتاج النفط ووسائل انتقاله يهم أميركا، إلا أن الاهتمام بأمن إسرائيل والخريطة الاستراتيجية في المنطقة يأتي في المقدمة، ويكفي أن نلاحظ الحملة الانتخابية الحالية لمن سيكون في البيت الأبيض العام القادم حتى نرى أن إسرائيل تبدو فعلاً كأنها الولاية الـ52 لبعض المرشحين.

في أوروبا هناك بالطبع الاهتمام بأحوال المنطقة الاستراتيجية، وقد يأتي ذكر إسرائيل عابراً لأسباب تاريخية بسبب عقدة اضطهاد اليهود ومحرقتهم أثناء الحرب العالمية الثانية، ولذلك يأتي في مقدمة النظرة الاستراتيجية الأوروبية الاهتمام بالنفط، فالعديد من الدول الأوروبية تعتمد في دوران عجلتها الاقتصادية على أكثر من 70 في المئة من النفط العربي، ولذلك فإن نظرتها للمعضلة الإيرانية تختلف في الكثير عن نظرة واشنطن -وبالطبع تل أبيب- إلى سياسات طهران وتداعيات برنامجها النووي.

ليس هذا هو الاختلاف الوحيد بين الاهتمام الأوروبي والأميركي بالمنطقة العربية، هناك في الواقع اختلاف أكبر وأهم، وهو موضوع الهجرة العربية -شرعية أم غير شرعية- إلى أوروبا، وهو موضوع لا تشعر به أميركا بالمرة. فالأوروبيون يؤكدون دائماً على أن البحر المتوسط، ما هو في الواقع إلا بحيرة وبالتالي يسهل على القوارب المختلفة إنزال المهاجرين بالشواطئ الأوروبية، وينظر بعض الأوروبيين -في الشارع الأوروبي وليس فقط بين أحزاب اليمين- إلى طوفان الهجرة العربية كأنها عمليات غزو، خاصة عندما يقومون بربط هذه الأعداد بتزايد التأثير الإسلامي في بلاد مثل فرنسا، بلجيكا أو إسبانيا، بل إن بعض الأحزاب quot;اليمينيةquot; تلعب على عامل الهجرة هذا وتقدمه على أنه أحد تهديدات الأمن القومي الأوروبي. وفي الحقيقة كان هذا القلق الأوروبي من موضوع الهجرة العربية- خاصة من دول المغرب- موضوع بحث ومناقشة في الثلاثين عاماً الأخيرة، ولكن ازداد الاهتمام به كثيراً بعد أحداث quot;الربيع العربيquot;، حتى إذا لم يتم الإفصاح عنه بالصراحة اللازمة في المؤتمرات والندوات الأوروبية.

لقد تزايد انعقاد هذه المؤتمرات والندوات في الفترة الأخيرة بصورة مثيرة للاهتمام، لدرجة أن الكثير منها ينعقد في فترات متقاربة جداً في العواصم الأوروبية، وحتى في نفس الوقت، بحيث يصعب قبول الدعوة للاشتراك فيها، آخر هذه المؤتمرات هو ما نظمه مركز الدراسات الدولية الشهير بمدينة الشمال الإسباني برشلونة، والذي يرأسه السكرتير العام السابق لحلف quot;الناتوquot;، والذي تبوأ فيما بعد رئاسة هيئة العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي، quot;خافير سولاناquot;، لم يكتف سولانا بكتابة دعوة شخصية لبعض المتخصصين، ولكنه رأس المناقشات كما كان دائم الحضور في التواصل الاجتماعي مع المتحدثين العرب والأتراك الذين لم يزد عددهم عن خمسة فقط، ولكن كان بينهم د. محمود جبريل، الرئيس السابق للمجلس الانتقالي في ليبيا، وكذلك ولد محمود، وزير خارجية موريتانيا السابق الذي يتجه حالياً إلى العمل الأكاديمي، ثم كاتب هذه السطور.

رغم مدة السفر ومتاعب الترحال، فإن المناقشات نفسها لم تكن إلا صباح يوم بين الإفطار والغداء ولم تستمر أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة، ولكنها كانت مركزة للغاية، وكان هناك حضور ضخم، ولكن تم اختياره بعناية، من نائب رئيس وزراء سابق في إسبانيا وكذلك وزير دفاع، إلى الأمين العام المالي لرئاسة الجمهورية، إلى الرئيس المناوب لاتحاد البحر المتوسط إلى بعض أقطاب الإعلام والجامعات ومراكز البحث والتفكير.

حسناً فعل المتحدثون والمناقشون في تجنب التركيز على الماضي للحديث عن الحاضر وخاصة المستقبل بعد عام مما أسماه بعضنا quot;اليقظة أو الصحوة العربية الثانيةquot;، حسناً فعل المتحدثون أيضاً من عدم التركيز فقط على المظاهر الوطنية البحتة، سواء كانت ليبية أو مصرية أو تونسية أو جزائرية، للكلام عن هذه الانتفاضات على أساس أنها سمة إقليمية وتأثيراتها الجيواستراتيجية سواء فيما يتعلق مثلاً بتطورات الوضع السوري وتأثيره على لبنان وكذلك الوضع الإسرائيلي- الفلسطيني. ولكن كان هناك بالطبع نقاش مستفيض عن نتيجة الانتخابات المصرية أو التونسية، مستقبل القوى الإسلامية بعد نجاحها في الوصول وحتى السيطرة على برلمانات ما بعد الثورة، حاضر ومستقبل العلاقة بين المدنيين والعسكريين... والأهم من كل ذلك هو كيفية مواجهة تداعيات هذه الصحوة العربية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، هل يكفي الاحتفاء بهذه الصحوة لحل مشاكل مزمنة وحتى متفاقمة مثل الصحة، التعليم، والبطالة؟ ثم ماذا عن كوارث إنسانية متراكمة مثل عدد اللاجئين المتزايد داخل البلد الواحد، سواء في ليبيا أو اليمن، والحياة اليومية التي تزداد شقاء؟ ثم أليس من الأجدى أن تقوم مؤسساتنا ومراكز بحثنا بنقاش مثل هذه الأمور؟